منذ حوالي ساعة
إن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه اللّه من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.
كان الله سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي وأمته أنه إن بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81ـ82].
وكانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ظاهرة واضحة لا خفاء فيها قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
وكان من الوضوح حتى إنهم كانوا يعرفونه أكثر مما يعرفون أبناءهم وأنفسهم {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
فقد كان اليهود ومعهم النصارى ـ كما يقول ابن كثير والقرطبي في التفسير: يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته التي جاءتهم في كتبهم، ويعرفون نبوته وصدق رسالته، كما يعرف الواحد منهم ابنه من بين الناس لا يشك أن هذا ولده، بل وأكثر من ذلك.
سأل عمر بن الخطاب عبد الله بن سلام: أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ولدك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه.
ومنها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر [أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ نَاشِرًا التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا، يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَلَى ابْنٍ لَهُ فِي الْمَوْتِ، كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ ذَا صِفَتِي، وَمَخْرَجِي» ؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا، أَيْ: لَا، فَقَالَ ابْنُهُ: إِي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ، وَمَخْرَجَكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا الْيَهُودي عَنْ أَخِيكُمْ، ثُمَّ وَلِيَ كَفَنَهُ، وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ. قال ابن كثير: هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح.
صفة النبي في التوراة:
روى ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد اللّه بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في التوراة قال: أجل، واللّه إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وحرزاً للأميّين، أنت عبدي ورسولي، اسمك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، (ولا صخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح)، ولن يقبضه اللّه حتى يتم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا اللّه، ويفتح به قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وأعيناً عمياً. وقد رواه البخاري في صحيحه.. وهكذا كانت حاله عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، كما سبق وصفه في سورة الأعراف.
يستفتحون على الذين كفروا:
وأعجب من ذلك أن اليهود كانوا يستفتحون برسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين من الأوس والخزرج. كما روي عن ابن عباس: إن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه اللّه من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر يهود اتقوا اللّه وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلاّم بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل اللّه في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
كل هذه الشواهد تؤكد أن اليهود ما كانوا يجهلون الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته التي جاءت في كتبهم، وأنهم كانوا يتوقعون ظهوره في هذا الزمان، ثم مرت الأيام وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فماذا فعل اليهود؟
اليهود يجحدون الرسالة:
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وذكرهم بالمواثيق التي أخذها الله عليهم بالإيمان به واتباعه على ما جاء به من الإسلام، قال مالك بن الصيف: والله ما عهد الله إلينا في محمد، وما أخذ علينا ميثاقا. فأنزل الله تعالى:{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].
حيي بن أخطب:
زعيم بني النضير، كان أول من بدأ ببيان حال اليهود وموقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. تروي أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها فتقول: لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني؛ لم ألقهما في ولد قط أهش إليهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء -قرية بني عمرو بن عوف- غدا إليه أبي وعمي -أبو ياسر بن أخطب- مغلِّسين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين، يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهُوَ هُوَ؟! قال: نعم والله! قال: تعرِفُهُ بنَعْتِهِ وصِفَتِهِ؟! قال: نعم والله! قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيتُ!
مالك بن الصيف:
ومنهم مالك بن الصيف، وقد كان من أحبار اليهود ورئيسا من رؤسائهم، حمله الجحود والكراهية والبغض لرسول الله أن ينكر رسالات الله كلها؛ فإنه هو الذي قال: {ما أنزل الله على بشر من شيء}، فانظر كيف أدى به عداؤه لرسول الله إلى الكفر بنبينا وبموسى عليهما السلام وبما أنزل عليهما، فقالت اليهود له: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني فقلت ذلك. فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.
وقد كان اليهود يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء تعنتا وحسدا وبغيا ليلبسوا الحق بالباطل، فكان يأخذ عليهم المواثيق إذا أجابهم أن يؤمنوا به فيعطونه عهد الله على ذلك، ثم ينكثون ويجحدون ويكذبون، أو يتعللون بالخوف من قومهم، أو بأي حجة واهية.
وقد كان كفار مكة يأتونهم يسألونهم عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعن دين الإسلام وهل هو أفضل أم ما هم عليه من الشرك فيجيبونهم كذبا وزورا بأن ما هم عليه من الشرك أفضل مما جاء به رسول الله.. فأنكر الله عليهم ذلك غاية الإنكار وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}[النساء:51ـ52].
حادثة السحر:
وكان من أقبح أفعالهم عليهم لعائن الله أنهم سحروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأغروا لبيد بن الأعصم الساحر فعمل له سحرا في مشط ومشاطة، في جف طلعة ذكر، ووضعها تحت راعوفة ببئر ذروان. فما زال كذلك حتى جاء جبريل فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بمكان السحر فأرسل من استخرجه وأبطله، كما روى ذلك البخاري وغيره.
محاولاتهم لقتل رسول الله:
وكان من خذلان الله لهم أنهم حاولوا أن يقتلوا رسول الله كما زعموا أنهم فعلوا مع عيسى بن مريم فأنجاه الله منهم:
وقد تعددت محاولاتهم لقتله صلى الله عليه وسلم: في بني النضير على يد عمرو بن جحاش، حينما حاولوا الغدر به وإلقاء حجر الرحى عليه وهو جالس تحت حائط لهم، فأوحى الله إليه بما أضمروه فقام ورجع إلى المدينة ثم أجلاهم بعد ذلك.
ومرة أخرى عندما وضعوا له السم في الشاة على يد زينب بنت سلام بن مشكم، بعد غزوة خيبر، وقد اعترفوا له بذلك.
والحق الذي لا مرية فيه أنهم لم ينتفعوا بما كان عندهم من العلم، ولا انتفعوا بما أوصاهم به عقلاؤهم وبعض المنصفين منهم، كما قال النبي لكعب بن أسد سيد قريظة: [ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقا بي، أما أمركم باتباعي وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟ قال كعب: بلى والتوراة، ولولا أن تعيرني اليهود بالجزع من السيف لاتبعتك].
وبالجملة فقد كان حالهم مع رسول الله أسوأ حال، جحود ونكران، وفسوق وكفران، ولو أردنا استقصاء الأمر لطال، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وإنما هي إشارات ليعلم المسلمون حال اليهود ويحذروا منهم ولا ينخدعوا فيهم.. والله من ورائهم محيط. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
Source link