منذ حوالي ساعة
يا معاشر الشباب، توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام، وسنة من سنن الأنبياء والمرسلين عليهم من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام
سبحان من خلق الخلق بقدرته، وصرَّفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته، وأسبغ عليهم الآلاء والنعماء بفضله وواسع رحمته، خلق الإنسان ضعيفًا خفيفًا ثم أمَدَّه بالصحة والعافية، فكان به حليمًا رحيمًا لطيفًا {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54]، ثم تمر السنون والأعوام، وتتلاحق الأيام تِلْوَ الأيام، حتى يصير إلى المشيب والكبر، ويقف عند آخر هذه الحياة، فينظر إليها فكأنها نسج من الخيال أو ضرب من الأحلام، يقف في آخر هذه الحياة وقد ضعف بدنه وانتابته الأسقام والآلام {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4].
إنه الكبير الذي رقَّ عظمُه، وكبرت سِنُّه، وخارت قواه، وشاب رأسُه، إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته، فرحمه وعفا عنه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 98، 99].
يا معاشر الكبار، أنتم كبار في قلوبنا، وكبار في نفوسنا، وكبار في عيوننا، كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين علمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم، لئن نسي الكثير فضلكم فإن الله لا ينسى، ولئن جحد الكثير معروفكم فإن المعروف لا يَبْلى، ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات فإن الخير يدوم ويبقى، ثم إلى ربك المنتهى، وعنده الجزاء الأوفى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]، أنتم البركة في البيت، والمسجد، والمجتمع، قال صلى الله عليه وسلم: «البركة مع أكابركم» (رواه ابن حبان).
أمَّا الآلام والأسقام التي تجدونها فالملائكة كتبت حسناتها، والله عَظَّم أجورها، وستجدونها بين يدي الله، فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات، اليوم تُزعجكم وتقلقكم وتُبْكيكم وتقض مضاجعكم، ولكنها غدًا بين يدي الله تفرحكم وتضحككم، فاصبروا على البلاء، واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء، فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء، قال صلى الله عليه وسلم: «عجبت لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خيرٌ، إن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له» (رواه مسلم).
يا معاشر الشباب، توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام، وسنة من سنن الأنبياء والمرسلين عليهم من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 23، 24]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم» (رواه أبو داود عن أبي موسى رضي الله عنه).
وكان صلى الله عليه وسلم يستشير الكبار ويقدِّرهم، وتألَّم صلى الله عليه وسلم لما جاء أبو بكر الصدِّيق بأبيه الشيخ الكبير للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي يتمنَّى أن يذهب هو إليه، ولما قدم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد صغيرهم أن يتكلم، قال صلى الله عليه وسلم: «كبّر كبّر» أي: الكبير يبدأ أولًا، وأوصى صلى الله عليه وسلم أن نقدِّم الأكبر سِنًّا للإمامة إن لم نجد القارئ.
إذا رأيت الكبير فارحم ضعفه، وأكبر شيبَهُ، وقدِّر منزلته، وارفع درجته، وفرج كربته، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن لم يرحم صغيرنا ويعرِفْ حقَّ كبيرنا، فليس منا» (رواه أبو داود والترمذي وصححه).
قدِّمْه في الكلام، والدخول والطعام، والجلوس والسلام «يسلِّم الصغير على الكبير» وارحم ضعفه إذا جاءك لحاجة إن كنت من أهل المسؤولية والمناصب، واحترم رأيه، وأظهر الاهتمام به، وساعده في الاندماج في المجتمع لا الانطواء؛ لأن ذلك يزيد عافيته، ويُدخِل عليه السرور. وما كان للكبار من الحسنات فانشروها واقبلوها واذكروها، وما كان من السيئات والهنات فاغفروها واستروها، وتجنبوا إحراجهم إن نسوا أو خلطوا في الحديث، ولا تكثروا من الحديث عن الموت وما بعده أمامه.
أما الآباء والأمهات فلهم شأن آخر في القرآن الكريم يطول الحديث فيه، ويكفينا قوله سبحانه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24].
ويسَّرت الدولة لكبار السنِّ تقديم الخدمات لهم وهم في منازلهم؛ لعدم المشقة عليهم، من خلال وزارة الصحة، ووزارة العدل، ووزارة الشؤون الاجتماعية، والجمعيات الأهلية؛ كجميعات: وقار، ورحماء، والتآخي، ورؤفاء، وواحة الوفاء، وإجلال.. وغيرها؛ لأن كبار السن باب من أبواب البر في خدمتهم ومساعدتهم، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟.
ولكن بعض الناس يفقد عقله، وينسى كينونيته، ويسيطر عليه شيطانه، وتغلب عليه شهوته، فيعتدي على كبير السِّنِّ طمعًا في ماله، أو إشباعًا لرغبته، أو تخلصًا من تعبه، أو توفيرًا لمصاريفه… ومجرمون آخرون بنوع آخر يستغلون كبير السن فيستخدمونه ليستجلبوا عطف الناس، وأموالهم، وهؤلاء كلهم من النوعين خرجوا من دائرة الإنسانية، فضلًا عن روضة الإسلام، ودوحة الإيمان. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «فليس منا» ليس من مجتمعنا المسلم، ولا يمثلنا.
ولا يعالج هذه التصرُّفات إلا التربية الإيمانية أولًا، ثم القانون، والأنظمة، والمجتمع. توحيد الله سبحانه، وتعظيمه، وعبادته، واتباع رسله عليهم السلام، وأصحاب رسله رضي الله عنهم، فإن الإيمان إذا تغلغل في القلب بادر للإحسان لكل من حوله بشرًا كانوا أو حيوانًا، فيصبح مباركًا أينما كان.
Source link