أنت عند الله غالٍ: لا بمالِكَ ولا بجمال جسدك ولا بمنصبك، وإنما بما في قلبك من محبة لله وطاعة له
أنت غالٍ عند الله؛ خَلَقَك بيديه سبحانه وتعالى:
أيها المؤمن الموحِّد، أنت عند الله غالٍ؛ لذا اختصك بتلك المنزلة وبتلك النعمة العُظمى؛ ألَا وهي أنه خلقك بيديه سبحانه وتعالى؛ قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 71 – 75]، فأخبر الله عز وجل أنه خلق آدم عليه السلام، وصوَّره عز وجل بيده، وجعَلَ هذه الصورة صورةً مُكرَّمة؛ ذلك أنَّ من سوَّاه الله عز وجل بيده الكريمة ليس كمن قال له: كُنْ فكان؛ عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ضَرَبَ أحدكم، فَلْيَجْتَنِبِ الوجه؛ فإن الله خلق آدمَ على صورته»[1][2].
فالله سبحانه وتعالى كرَّم هذه الصورة، وسوَّاها بيده عز وجل؛ وذلك أن بني آدم كلهم كانوا في صلب أبيهم، وجعلهم على صورة أبيهم، فخلق آدم ثم خلق ذريته على تصويره، وكذلك خلق عز وجل أرواحهم قبل خلق أجسادهم؛ كما قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172]؛ قال الإمام الدارمي رحمه الله: “وولِيَ خَلْقَ آدم بيده مسيسًا، لم يخلُق ذا رُوحٍ بيديه غيره، فلذلك خصَّه وفضَّله، وشرَّف بذلك ذكره”[3].
وروى الدارمي واللالكائي والآجري وغيرهم بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال: “خلق الله أربعةَ أشياءَ بيده: العرش، والقلم، وعَدْنٍ، وآدمَ، ثم قال لسائر الخلق: كُن فكان”.
وروى الدارمي بسند حسن عن ميسرة أبي صالح مولى كندة، أحد التابعين أنه قال: “إن الله لم يَمَسَّ شيئًا من خَلْقِهِ غيرَ ثلاثٍ: خَلَقَ آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده”[4].
فهذه أربعةُ أشياءَ خلقها الله بيده: العرش، والقلم، وجنة عدن، وآدم، وأما سائر الخلق، فهم مخلوقون بالكلمة (كن)، فكانوا.
أنت عند الله غالٍ: خلقك لعبادته، وخلق كل شيء من أجلك:
أيها المسلم الكريم، أنت كريم وغالٍ عند الكريم جل جلاله، فقد خَلَقَ كلَّ ما في الكون من سماء وأرض، من بحار وأنهار، من سهول وأودية، من شجر وحيوان، من شمس وقمر، كلَّ شيء خلقه الله لخدمتك؛ فأنت غالٍ عند الله؛ قال ابن القيم رحمه الله: “خلَقَ الله سبحانه عباده المؤمنين، وخلق كل شيء لأجلهم؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
وكرَّمهم وفضَّلهم على كثير ممن خلق؛ فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وقال لصالحيهم وصفوتهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، وقال لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41]، واتخذ منهم الخَلِيلَين، والخُلَّةُ أعلى درجات المحبة، والله سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعزَّ الأشياء وأشرَفَها وأعظمها قِيمةً.
وإذا كان قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له دارًا في جواره وقربه، وجعل ملائكته خَدَمَه يَسْعَون في مصالحه؛ في يقظته ومنامه، وحياته وموته، ثم إن العبد أبَقَ عن سيده ومالكه، مُعرِضًا عن رضاه، ثم لم يَكْفِهِ ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه ووالاه من دونه، وصار من جنده، مُؤثِرًا لمرضاته على مرضاة وليِّه ومالكه، فقد باع نفسه – التي اشتراها منه إلهه ومالكه وجعل ثمنها جنَّتَه والنظر إلى وجهه – من عدوِّه وأبغضِ خَلْقِهِ إليه، واستبدل غضبه برضاه، ولعنته برحمته ومحبته.
فأي مَقْتٍ خلا هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].
قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: ” {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [الجاثية: 13] من شمس وقمر ونجوم {وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجاثية: 13] من دابَّةٍ وشجرٍ، وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم، {جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] يقول تعالى ذكره: جميع ما ذكرت لكم – أيها الناس – من هذه النِّعَمِ نِعَمٌ عليكم من الله أنعم بها عليكم، وفضلٌ منه تفضَّل به عليكم، وجميعها منه ومن نعمه، فلا تجعلوا له في شرككم له شريكًا، بل أفرِدوه بالشكر والعبادة، وأخلِصوا له الأُلُوهةَ؛ فإنه لا إله لكم سواه”[5].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65].
وقال الإمام الرازي في تفسير هذه الآية: ” {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [الحج: 65]؛ أي: ذلَّلَ لكم ما فيها، فلا أصلبَ من الحَجَرِ، ولا أحدَّ من الحديد، ولا أكثر هيبةً من النار، وقد سخرها لكم، وسخر الحيوانات أيضًا؛ حتى يُنتفَع بها من حيث الأكل والركوب، والحمل عليها، والانتفاع بالنظر إليها”[6].
أنت عند الله غالٍ متى استقرَّ الإيمان في قلبك:
أخي المؤمنَ، الإيمان أنت عند الله غالٍ بإيمانك وتصديقك؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلًا من أهل البادية يُقال له: زاهر بن حرام، كان يُهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الهدية، فيُجهِّزه إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زاهرًا باديتنا ونحن حاضروه»، قال: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، والرجل لا يُبصره، فقال: أرْسِلْني، من هذا؟ فالتفت إليه، فلما عرَف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يُلْزِقُ ظهره بصدره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري هذا العبد» ؟ فقال زاهر: تجدني يا رسول الله كاسدًا، فقال: «لكنك عند الله لست بكاسدٍ»، أو قال صلى الله عليه وسلم: «بل أنت عند الله غالٍ»[7].
هذا مشهد من مشاهد العظمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فزاهرٌ لا مالَ لهم، لا يملك شيئًا من متاع الدنيا، ولا جمال يَزِينه، لكنه في نظر الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله غالٍ.
عند الله أنت غالٍ: تُبرِز أن قيمة الإنسان ليس بما يملِك من حُطامٍ زائل، أو يكنِز من متاع فانٍ، بل قيمته فيما يحمل من قيم ومبادئ، وما انطوت عليه سريرته من صدق وحبٍّ لهذا الدين.
عند الله أنت غالٍ: تصرف انتباهنا إلى أن أهمَّ ما يجب الحرص عليه في هذه الدنيا هو مقامنا عند الله، لا عند الناس؛ فرضا الله يسير بلوغه، أما رضا الناس فغاية لا تُدرَك.
عند الله أنت غالٍ: تصحِّح معاييرنا التي نَزِنُ بها الناس، هذه الأخيرة قد يُصيبها التطفيف، بل قد تصيبها عدوى مما يُروَّج في المجتمع من مقاييسَ زائفةٍ، فنحتاج أن نقيِّم الناس بميزان الشرع لا ميزان الهوى.
عند الله أنت غالٍ: توضِّح أن أساس نجاح أية دعوة إصلاحية هو الاهتمام بالإنسان قبل العمران.
أنت عند الله غالٍ: لا بمالِكَ ولا بجمال جسدك ولا بمنصبك، وإنما بما في قلبك من محبة لله وطاعة له؛ كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه من مشاهير الصحابة وعلمائهم، وله فضل كبير في الإسلام، وهو سادس من دخلوا الإسلام في أول مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي هذا الحديث يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنَ مسعود، فصعِد شجرةً يأتيه منها بشيء، يجتني بعضًا من ثمارها، وفي رواية لأحمد: يجتني سواكًا من الأراك، قال علي رضي الله عنه: فنظر أصحابه إلى ساق عبدالله، فضحِكوا من حُمُوشةِ ساقَيه – من دقة ساقيه ونحافتهما – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تضحكون» ؟! أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ضحكهم، ثم قال: «لَرِجْلُ عبدالله أثقل في الميزان يوم القيامة من أُحُدٍ»[8].
وهذا بيانٌ لفضل ابن مسعود رضي الله عنه، ومنقبته في الإسلام، ولبيان أن العِبرة في هذا الدين ليست بفضل نسب ولا قوة جسد، وإنما بفضل ما بذله الإنسان لدين الله عز وجل ونفع به غيره.
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكنه ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»[9].
أنت عند الله غالٍ: يصلي عليك الله تعالى، وملائكته، وتستغفر لك الملائكة:
يقول سبحانه وتعالى مُبيِّنًا جانبًا من جوانب قيمة ومكانة ومنزلة المسلم، المسلم الذي شَكَرَ نِعَمَ الله حقَّ شكرها، وحَمَلَها حقَّ حملها، المسلم الذي يُرى الإسلامُ صورةً حيَّة ممثَّلةً في أعماله وأقواله ومعاملته: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 43، 44]، ويقول: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 – 9].
خَلْقُ هذه الأشياء المذكورة وغيرها قبل خَلْقِ الإنسان لا شكَّ أن له حِكَمًا جليلة، علِمها مَن علِمها، وجهِلها مَن جهلها، ولعل من هذه الحِكَمِ أن الله عز وجل لما خلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له، وكرَّمه على سائر مخلوقاته، وجعل الكون كله في خدمته؛ كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، هيَّأ له الأرض، وقدَّر فيها أقواتها، وبثَّ فيها الدواب؛ ليكون ذلك كله في خدمة الإنسان المكرَّم، حتى يؤدي الوظيفة التي من أجلها خُلِقَ؛ وهي عبادة الله تعالى، وشأن الكريم أن يُهيِّئَ الإكرام لمن يريد إكرامه قبل قدومه، والله سبحانه وتعالى الذي كرَّم الإنسان هو أكرم الأكرمين.
أنت عند الله غالٍ فجَعَلَ قَتْلَك كقتلِ جميع الناس:
أخي المسلم الكريم: إذا أردت أن تعرف قدرك عند ربك؛ فاقرأ قول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
فالحاصل أن الله بيَّن في هذه الآية أن قَتْلَ نفسٍ واحدة بغير نفس، أو فساد في الأرض، كقتل جميع الناس، وإحياء نفس واحدة كإحياء جميع الناس، وهذا يدل على عِظَمِ القتل، ولو أن إنسانًا أحصى كم قتل من بني آدم بغير حقٍّ لم يقدر، ومع ذلك فكل نفسٍ تُقتَل، فعلى ابن آدم الأول الذي قتل أخاه كِفْلٌ منها، وعليه من إثمه نصيب.
أنت عند الله تعالى غالٍ: فجَعَلَ قَتْلَك أعظمَ من زوال الدنيا:
أخي المسلم الكريم: اقرأ الحديث النبويَّ وتتدبر معناه: عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لَقَتْلُ مؤمنٍ أعظمُ عند الله من زوال الدنيا»[10].
عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتل مسلمٍ»[11].
حرَّم الله سبحانه القتل ظلمًا، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم جُرمَ قتلِ المسلم بغير حق؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لزوال الدنيا»؛ أي: فناؤها وهلاكها، «أهون»؛ أي: أخف وأقل شأنًا، «على الله من قتل رجل مسلم»؛ أي: فقتل المسلم ظلمًا بغير سبب شرعي من الكبائر، وهذا الكلام مَسُوقٌ لتعظيم القتل وتهويل أمره، وكما أن الدنيا عظيمة في نفوس الخلق، فزوالها يكون عندهم عظيمًا على قدر عظمتها، ولكن قتل المؤمن أعظم من ذلك عند الله؛ لأن ما سوى الإنسان المسلم في هذا العالم الحسي من السماوات والأرض مقصود لأجله، ومخلوق ليكون مسكنًا له، ومحلًّا لتفكره، فصار زواله أعظم من زوال التابع.
أنت عند الله غالٍ أغلى من الكعبة المشرفة:
قال عبدالله بن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة وهو يقول: «ما أطيبَكِ وأطيبَ ريحكِ وأعظمَ حرمتكِ! والذي نفس محمد بيده، لَحُرْمَةُ المؤمن أعظم عند الله حرمةً منكِ؛ ماله ودمه، وإنْ نظنُّ به إلا خيرًا»[12].
عن ابن عباس قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قال: «مرحبًا بكِ من بيتٍ ما أعظمكِ، وأعظمَ حُرمتكِ! ولَلْمُؤمنُ أعظمُ عند الله حرمةً منكِ»[13].
أنت عند الله غالٍ: إذا فقُهتَ في دينك:
فقد زكَّى الله تعالى أهلَ العلم، وقرن شهادهم بشهادته وشهادة الملائكة؛ فقال جل جلاله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
عن أبي هريرة قال: (سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أكرمُ الناس؟ قال: «أتقاهم»، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فأكرم الناس نبيُّ الله ابنُ نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله»، يعني: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فعن معادن العرب تسألوني؟ إن خيارَكم في الجاهلية خيارُكم في الإسلام إذا فقُهوا»[14].
[1] استشكل بعض أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدمَ على صورته))؛ حيث فهِموا أن القول: بإعادة الضمير على الله تعالى في هذا الحديث، يلزم منه التشبيه – تشبيه صورة آدم بصورة الله تعالى – ولذلك اختلفوا في متعلق الضمير.
وجملة الخلاف يعود إلى أربعة أقوال هي كما يأتي:
أولًا: أن الضمير في قوله: (على صورته) عائد على غير الله تعالى؛ ففي حديث: (إذا قاتل أحدكم أخاه، فليجتنب الوجه، فإن الله خَلَقَ آدمَ على صورته))، يعود إلى المضروب.
ثانيًا: أن الضمير في قوله: (على صورته) عائد إلى الله تعالى، وأن إضافة الصورة إلى الله تعالى من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وعلى هذا جمهور أهل السنة، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ممن انتصر لهذا القول، وأطال الكلام جدًّا على هذا الحديث – قال: “هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك”.
ثالثًا: أن الضمير في قوله: (على صورته) يعود على الله عز وجل، وتكون إضافة الصورة إلى الله تعالى من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؛ كما في قوله تعالى: ﴿ نَاقَةُ اللَّهِ ﴾ [الأعراف: 73]، وكما يقال في الكعبة: بيت الله … وهكذا.
رابعًا: إنكار حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)، والنهي عن التحديث به، وهذا مرويٌّ عن الإمام مالك.
[2] أخرجه البخاري في كتاب العتق، باب: إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه، برقم (2559)، مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة، باب: النهي عن ضرب الوجه، برقم (2612)، واللفظ لمسلم. [3] نقض الدارمي على المريسي، ص: 64. [4] نقض الدارمي، ص: 99، وقال محققه الشيخ منصور السماري في مقدمته: “وقد رُوِيَ عن غيره من التابعين مثل حكيم بن جابر، ومحمد بن كعب القرظي بأسانيدَ صحيحة، ذكرتها عند التعليق على الأثر في موضعه من الكتاب”. [5] تفسير الطبري = جامع البيان ت: شاكر (22/ 65). [6] التفسير الكبير، للإمام فخر الدين الرازي، (12/55)، دار الكتب العلمية، ط: الثانية، 1425ه، 2004م. [7] إسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو في مصنف عبدالرزاق (19688)، ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد (3/161)، والترمذي في الشمائل (239)، وأبو يعلى (3456)، والبزار (2735)، والبيهقي (6/169) و(10/248)، رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الحافظ في الإصابة (1/533). [8] أخرجه أحمد (1/114، رقم 920)، وأخرجه أيضًا: ابن أبي شيبة (6/384، رقم: 32232)، وأبو يعلى (1/409، رقم: 539)، والطبراني (9/95، رقم: 8516)؛ قال الهيثمي (9/288): “رجالهم رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة”، والضياء (2/421، رقم: 808)، وقال: إسناده حسن. [9] أخرجه مسلم (2564) (34)، مسند أحمد (2827) و(10965)، وأدرجه ابن حبان في صحيحه (394). [10] أخرجه النسائي (7/82، رقم: 3986)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/344، رقم: 5341). [11] أخرجه ابن ماجه (2/874، رقم: 2619)، قال البوصيري (3/122): “هذا إسناد صحيح رجاله ثقات”، والبيهقي في شعب الإيمان (4/345، رقم: 5343). [12] الطبراني في مسند الشاميين ج: 2، ص: 396، ح: 1568، أَخْرَجَهُ ابن ماجه (3932)؛ قال البوصيري (4/164): “هذا إسناد فيه مقال”، (ضعيف)، انظر حديث رقم: 5006 في ضعيف الجامع. [13] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/444، رقم: 4014)، وهو في السلسلة الصحيحة برقم: 3420. [14] أخرجه الدارمي (223)، والبخاري (3353) و(3490)، ومسلم (2378)، والنسائي في الكبرى (11249)، وابن حبان (648).__________________________________________________
الكاتب: السيد مراد سلامة
Source link