فيا أيها المسلم، أنت في ليلك ونهارك، في سرك وعلنك، تحتاج إلى الصبر، مع زوجتك مع أولادك مع جيرانك، وأنت في مرافق الدولة في عملك، مع موظفيك، ومع المراجعين، وتحتاجه وأنت في سيارتك
آية من كتاب الله يحفَظها المسلمون، لكن المتأمل فيها قليل، آية من سورة البقرة، تلكم السورة التي امتدحها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: «إن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيع لها البطلة»[1]؛ أي: لا يستطيع الجن أن تُزعزع أمن من كان يحفظ البقرة أو يقرؤها، فذلك بيت مُحصن؛ لأن فيه سورة البقرة أعظم سورة وأطول سورة في كتاب الله، افتتح الله بها القرآن الكريم بعد فاتحة الكتاب، وأتت هذه الآية فيها؛ يقول المولى جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، ها هو جل وعلا ينادي المؤمنين والمؤمنات بهذا الخطاب اللطيف، ويَنسبهم إلى الإيمان تشريفًا لهم، من زمن المهاجرين والأنصار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ثم بماذا يَحثهم بهاتين الركيزتين اللتين بهما صلاح الدنيا والآخرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، فهو أمر من الله لك أيها المؤمن أن تستعين على نجاح أمورك في الدنيا والآخرة، تستعين بالصبر وهكذا بالصلاة، ولقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ صلى، أي أمرٍ يُقلقه يَفزَع إلى الصلاة.
أيا مسلمًا باع الهوى والملاهيـــــــا ** وأصبَح للذكر المقدَّس تاليَـــا
توضَّأ بماء التوبة اليوم مخلصًا به ** ترقى أبواب الجنان الثمانيـــا
وقل لبلال العزم إن كنت صادقًـــا ** أرحْنا بها إن كنت حقًّا مصلِّيَـا
فيا من تشتكي الهموم والكوابيس والأحلام المزعجة، يا من تشتكي ضيق التنفس وكثرة الأعمال، وكثيرًا من الهموم، ها هو الله كفل لك الأمن والراحة والاستقرار، يوم أن تفزَع إلى الصلاة تجد الراحة كلها، فإذا جاءتك همومٌ تدك الجبال، فتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: «يا بلال، أقِم الصلاة، أرِحْنا بها»[2].
فإنه كان إذا تشاغَل بأمرٍ، فزع إلى الصلاة، يصلي ما شاء الله له، ثم يجد بعد ذلك الراحة والطمأنينة والسكون، كيف لا وقد اتَّصل برب العالمين؟!
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهــــــــم ** والحرب تسقي الأرض جامًا أحمرَا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبَّروا ** في مطلع الروح الأمين فكبَّــــــــرَا
وأما حديثنا، فَهو ما يتعلق بأمر الصبر، فالصبر محمود كله في دنياك وأخراك، وسرك وعلنك، في أمورك كلها، فإن معيةُ الله مع الصابرين الصبرَ.
عباد الله، امتدحه بعض الأدباء قائلًا:
الصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
فالصبر مرٌّ أوله لكن آخره عظيم، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، وقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
الصبر على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صبر على أقدار الله، ما نزل من مصائب السماء استلقفه العبد المؤمن راضيًا بقضاء الله؛ قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155، 156]، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
فكل أمر فبتقدير الله، فإذا ابتُليت يا مسلم بفقْد الأولاد، أو بموت أحد أقاربك أو أهلك، أو أصدقائك، فعزِّ نفسك بالصبر، إن أصاب مالك جائحة فعزِّ نفسك بالصبر، إن أُصبت بمكروهٍ فعزِّ نفسك بالصبر، فالصبر حميد كله، تجد الخير كامنًا في الصبر، وإن أنت لم تصبر فما غيَّرت من حقيقة الأمر شيئًا، لكنها هموم وعاقبة سوء، وإن كان الأمر كذلك.
دعِ المقادير تجري في أعنَّتهـا ** ولا تبيتنَّ إلا خالي البـــــالِ
ما بين وَمضة عينٍ وانتباهتها ** يغيِّر الله من حالٍ إلى حال
يعقوب النبي الكريم ذلكم العبد الصالح، حينما جاءه أولاده عشاءً يبكون، ورُبَّ ظالم باكٍ زاعمين أن يوسف أكله الذئب، وما كان من ذلك من حقيقة، لكنه حسد وابتلاء، إنه حسد {وابتلاء، فماذا كان من العبد الصالح قال: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، واستمر يوسف في غيبته، قيل: خمسين عامًا، وقيل: أكثر من ذلك، وهو صابر على قضاء الله، وفي نهاية المطاف كان التعويض من الله، اجتمع يوسف بأبيه، ورأى الأب ابنه، وأقرَّ الله عينه، وجاء إخوة يوسف يعتذرون، فما كان صاحب النفس العظيمة لينتقم لنفسه، لكنه صبر، قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا، هكذا يمتدحونه في وجهه ظانين أنه سينتقم، فإذا به يقول: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم سامَحهم كلهم، وما انتقم لنفسه، وهكذا صاحب النفس العظيمة لا ينتقم أبدًا لنفسه.
لا يجعل الحقدَ مَن تعلو به الرُّتب ولا ينال العلا مَن طبعُه الغضبُ
أيوب ذلكم العبد المبتلى، نبي اجتباه الله، لكنه ابتلاه بوجع في جسده ثمانية عشر عامًا، قلاه القريب والبعيد، عدا زوجته، ذات ولاء لزوجها، صبرت مع هذه النبي، لقد كانوا يجدون الريحة المنتنة من أيوب صلى الله عليه وسلم، فأخرجوه إلى خارج البلدة، ويستمر هكذا في آلامه إلى أن شفاه الله، وتُوِّج بِحُلة عظيمة؛ قال جل وعلا: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44].
اصبِر لكل مصيبة وتجلَّــــد ** واعلم بأن المرءَ غيرُ مُخلَّد
فإذا أتتك مصيبةٌ تشكو بها ** فاذكُر مصابك بالنبي محمد
من الصالحين الأخيار رجل من رواة الحديث، هذا الرجل عروة بن الزبير، جده أبو بكر الصديق، وأمه أسماء ذات النطاقين، وجده الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الراوية يسمى بعروة بن الزبير، كان من حفاظ الحديث والأثر رحمه الله، سلط الله عليه في جسده، على أنه من الصالحين وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنما ابتُلي الرجل على قدر دينه»[3].
سلَّط الله عليه آكلة في رجله، وهو ما يسمى الآن بمرض السرطان، فقرَّر الأطباء بَتْرَ تلك القدم، وفعلًا نفذوا قطعها، وبينما هم يقطعونها إذا به يفقد أكبر أولاده محمد، يموت ابنه الأكبر، وجاءه المعزون قائلين له: أحسَن الله عزاءك في ابنك وقد مات، قال: الحمد الله، اللهم قد أعطيتني رِجلين، فإن أخذت واحدة فقد أبقيت لي أخرى، وأعطيتني ولدين فإن أخذت أحدهما فقد تركت لي الآخر، وأما أهل الإرجاف، فقال قائلهم: ما نزل هذا البلاء بهذا العبد إلا لذنب عظيم، وهكذا ما أكثر المتقوِّلين:
كم تطلبون لنا عيبًا فيُعجزكم ويَكره الله ما تأتون والكرم
هكذا يفترون وهو من العلماء الأفذاذ ولكن كما قيل: والجاهلون لأهل العلم أعداء، فإذا بعروة يبكي من شدة الألم، يبكي بكاء عنيفًا، ثم يتمثل بأبيات من شاعر مضى:
لعمرُك ما أهويتُ كفي لريبةٍ ** ولا حملتني نحو فاحشةٍ رِجلي
ولا دلَّني رأي عليها ولا عقلي ** واعلم أني لم تُصبني مصيبــة
من الدهر إلا قد أصابت فتى
هذا هو القسم الأول من أقسام الصبر، وأما القسم الثاني، فهو صبر عن معصية الله، ترى الناس يعاقرون المعاصي والذنوب، يسمرون أعينهم فيما ينغص حياتهم، ويقض مضاجعهم، يسمعون أفكارهم، يُسممون بطونهم بالحرام، بالرشوات، بأمور كثيرة، لكنك قد عصمت نفسك عبد الله، فأنت إذًا من الصابرين، ترى غيرك من ذوي المال والثراء يذهب هنا وهناك، يتسكع بآخر موديل، ويعاكس بهاتفه، يمشي هنا وهناك، لكنك قد تعفَّفت يا عبد الله، فأنت حينئذٍ من الصابرين الذين صبروا على طاعة الله، ولك أسوة في الكريم ابن الكريم يوسف، ذلك الشاب الوسيم الذي نادته امرأة العزيز، فقالت: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، فأبى يوسف أن يعاقر المعصية، وفضل أن يدخل السجن بريئًا قبل أن يتلطخ بجريمة الزنا.
احفظ منيَّك ما استطعت فإنه ماء الحياة يُصَبُّ في الأرحام
أحد الصالحين كانوا ثلاثة نفر آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت عليهم صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقال بعضهم لبعض: لا ينجيكم من هذا إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فإذا أحد الثلاثة يتوسل إلى الله بعِفته وبصبره عن المعصية والجريمة، فاستجاب الله دعاءه، وكشف الله ما بهم من البلاء أتدرون ما قصته؟
قال: اللهم إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أُحبها أشد ما يحب الرجال النساء فأردتها عن نفسها عن طريق الحرام، فأبت عليَّ، فألَمَّت بها سَنة من السنين؛ أي: حصل عندها فقر وجفاف ما عندها مال، فجاءت إلى هذا الرجل قالت: أعطني مالًا، قال: حتى تخلِّي بيني وبين نفسك، قالت: أفعل، فلما أعطاها المال استجابت له، فلما أن قعد أمامها، قالت له: اتَّقِ الله ولا تَفُضَنَّ الخاتم إلا بحقه، قال: فانصرفت عنها، اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون[4].
وهكذا كان العفاف مظهرًا لأصحابه، وهكذا إنما تسمو الأمة بنزاهة أفرادها، وعِفة شبابها ونسائها.
مَنْ يَزْنِ يُزْنَ به وَلَوْ بِجِدَارِهِ إِنْ كُنْتَ يَا هَذَا لَبِيبًا فَافْهَمِ
وأما القسم الثالث، فهو صبر على الطاعة، فما من أحد من المسلمين إلا وهو يحتاج إلى أن يصبِّر نفسه على طاعة الله، فإن الشيطان لك يا مسلم بالمرصاد، فلقد ثبت الأنبياء أنفسهم والصالحون من بعدهم، وهكذا دواليك، فما من أحد من الصالحين إلا وقد جاء الشيطان يريد أن يفضي به إلى الشر، وإلى النار، لكنه يأبى عليه ذلك؛ قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 – 62].
فالصبر عاقبته حميدة؛ قال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، ففي هذه الأقسام الثلاثة صبر على الأقدار، وصبر على الطاعات، أو صبر على المعاصي والموبقات، فكل ذلك حميد عند الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «والصبر ضياء»[5]؛ أي: إنه يضيء لصاحبه الطريق، ويُخرجه من مضايق الأمور، وسوف تسمعون ما يكون عكسًا للصبر في الخطبة الثانية إن شاء الله، استغفروا الله يغفر لكم.
معاشر المسلمين، إن ما يكون عكس الصبر، هو أن يَجزع الإنسان ولا يرضى بما قدر الله، فإنه إن لم يرضَ بذلك، فإن عواقب المخالفة وخيمة، فمن لم يرض بأن يوطِّن نفسه على الصبر على أقدار الله، ربما أفضى به ذلك إلى الابتلاء بأمراض شتى؛ كالضغط والسكر، وهكذا أمراض نفسية وعصبية، وربما مرض من ذلك كثيرًا، وربما مات البعض من هول المصيبة، فكم من رجل نُبِّئَ بمصيبة، فما كان منه إلا أن مات إذا احترق ماله، أو مات أبوه أو أمه، أو أُخبر من ذلك بشيء، حينها لا يتمالك نفسه، وإن الإسلام قد وجَّهنا أعظم توجيه، فالصبر لأهميته قد ذُكر في القرآن في أكثر من تسعين موضعًا، وما ذلك إلا لأهميته.
صبَرتُ ومَن يَصبر يَجد غضَّ صبره ألذَّ وأحلى من جنى النحل في الفمِ
فيا أيها المسلم، أنت في ليلك ونهارك، في سرك وعلنك، تحتاج إلى الصبر، مع زوجتك مع أولادك مع جيرانك، وأنت في مرافق الدولة في عملك، مع موظفيك، ومع المراجعين، وتحتاجه وأنت في سيارتك، يوم أن يعاكسك البعض وأنت ترد على سماعة الهاتف والمؤذن يؤذن، فلابد أن تلبِّي نداء الله وأنت نائم قبل الفجر، والمؤذن يؤذن.
منائرُكم علت في كل ساح ** ومسجدكم من العباد خالي
وزلزلة الأذان بكل حيــــن ** ولكن أين صوتٌ مِن بـــلالِ
فتحتاج إلى الصبر على مدار اليوم والليلة، ولقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين قال: يا رسول الله، أوصني، قال: «لا تغضب» فردد مرارًا، قال: «لا تغضب»[6]، قال الصحابي فعلمت أن الغضب قد جمع الشر كله، فكم من رجل غضب غضبة قوية، فهرِف بما لا يعرف فطلَّق زوجته، وربما تكون الطلقة الأخيرة، وربما ضرب ابنه فأرداه قتيلًا، وبعض الناس ربما يغضب غضبًا، فيرديه إلى القتل، فالإسلام إذًا دلنا على شيء، فإن فيه الراحة والسعادة والخير في الدنيا والآخرة.
وهكذا يا معاشر المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية، أنت أخذت بهذه الخصلة يجب عليك أن تتقي الله في الغير، وعلى الغير أن يتقي الله تعالى فيك، فإذا علمت أن زوجتك تغضب من أمر كذا، فلا ينبغي أن تُغضبها، وأنت أيتها المرأة إن شعرت أن زوجك يغضبه كذا، فلا تُغضبيه.
وهكذا أنت يا مسلم، إن شعرت أن أحد إخوانك المسلمين يغضب من كذا، فلا ينبغي لك أن تتسبب في إيذائه، فأذية المسلمين حرام، اسمعوا إلى ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم وقد صعد على المنبر قائلًا: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فمن تتبع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضَحه ولو في جوف رحله»[7].
فإذا ما شعرت بغضب وكما في الحديث: «وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»[8].
ومن ذا الذي لا يغضب، فكلنا ذلك الرجل، لكن هناك بعض الأدوية، هذه الأدوية هي من صيدلية محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم فليسكت»[9]، وفي رواية: «فليتوضأ، فإن ذهب ما يجد وإلا فليرقُد»[10]، هذه توصيات محمد صلى الله عليه وسلم.
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ذلكم الرجل الذي ضُرب به المثل في الحلم والأناة، ملك الدنيا شرقًا وغربًا عشرين عامًا، جاء رجل إلى باب الإمارة، فأغضبه بكلام قذر، فدخل معاوية إلى البيت إلى قصر الإمارة، فاغتسل، ثم صلى ركعتين، ثم لبس ثيابًا أخرى، وخرج قال له بعضهم: ألا أمرت به، قال: كان الشيطان يريد أن يكون لي وله سبيلًا، فقطعته عليه.
ويروى في سيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد أنه مر برجل وهو نائم على الرصيف في الليل في الظلام، فركضه عمر برِجله وهو لا يدري، فقام الرجل وقال له: أمجنون أنت؟ فقال عمر: أنا لست بمجنون، ومشى، قال الجند: نأخذه إلى السجن، قال: لا تأخذوه إنما سألني فأجبته، لو حصل هذا في زماننا، ربما رد الصاع صاعين، هكذا والعياذ بالله، والله تبارك وتعالى يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]، والتطفيف سواء كان في الكيل، أو في السباب والشتام، أو في العداوة والبغضاء، فصاحب النفس العظيمة لا يحمل فيها إلا الخير والصلاح للبلاد والعباد ولمجتمعه، وهكذا.
والله إن سلكنا هذا الباب – باب الصبر – لرأيت الوئام، ولرأيت الخير كله، ولخف الناس من المراجعات في المحاكم والسجون، وفي كثير من القضايا، ولا سيما عند زحمة السيارات، مثلًا عند خروجهم من المساجد في مرافق الدولة، أمور كثيرة، لو أن الناس سلكوا هذا الباب لوجدوا الخير كله، واسمعوا إلى ربكم ماذا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
أسأل الله بمنِّه وكرمه وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلى – أن يجعلنا هداة مهتدين.
اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين الصابرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
[1] صحيح: رواه مسلم رقم (840).
[2] صحيح: رواه أبو داود رقم (4985)، وأحمد رقم (23137)، والطبراني رقم (6214)، قال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح الجامع رقم الحديث (7892).
[3]صحيح: مسند الطيالسي رقم (215)، وشعب الإيمان رقم (9775)، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (994).
[4]صحيح: رواه البخاري رقم (2102)، وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، رقم الحديث (2743).
[5] صحيح: رواه مسلم رقم الحديث (223)، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[6]صحيح: رواه البخاري رقم (5765).
[7]صحيح: رواه الترمذي رقم (2032)، وابن حبان رقم (5763)، والطبراني رقم (11444)، قال الألباني: حسن صحيح؛ راجع مشكاة المصابيح رقم (5044)، وصحيح الترغيب والترهيب رقم (2339).
[8]صحيح: رواه الترمذي رقم (2499)، وابن ماجه رقم (4351)، وأحمد رقم (13072)، وقال الألباني: حسن، انظر صحيح الجامع رقم (4515).
[9]صحيح: رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (245)، وأحمد رقم (2136)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (693).
[10]صحيح: رواه البيهقي رقم (8291) في شعب الإيمان.
___________________________________________________________________
الكاتب: الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
Source link