سنة المغالبة وفقهها – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

أيها المسلم، مهما ينزل بالمسلمين من بلاء وشدة، فإن الله عز وجل سيجعل منه فرجًا، فلا تضيق ذرعًا، فمن المحال دوام الحال، والليالي حبلى، والحكيم ﴿  {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}

الحمد لله الخلَّاق العليم، خلق الخلق ليعبدوه، وأعطاهم ليشكروه، كتب الغلبة لأوليائه، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وعطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوضح المحجة للسالكين، وأقام الحجة على المعاندين، وبلَّغ البلاغ المبين، وبشَّر المؤمنين بالنصر والغلبة والتمكين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

 

أهمية الحديث عن سنة المغالبة:

أيها المسلمون، إن العالمَ الإسلاميَّ اليوم ليمرُّ بحالة عصيبةٍ وخطوب مستعصِية، والأمَّة المسلمة برُمَّتِها شاخصة ببصرها ألمًا وحيرةً وذهولًا؛ بل يزداد ألمها وفاجعتُها حينما ترجع البصر كرَّاتٍ ومرَّات، ثم ينقلبُ إليها البصر خاسئًا وهو حسير، حتى بلغ الوهم في صفوفها مبلغًا مثّل لها الضعيفَ قويًّا، والقريبَ بعيدًا، والمأمنَ مخافًا؛ فجعلت تتخبَّط إزاءَ هذا الوهم تخبُّطَ المصروع؛ لا يرى ماذا أدركه وماذا تركه، وهي تعلم أن لله في هذا الكون في الأفراد سننًا، وفي الأمم سننًا، وفي المسلمين سننًا، وفي الكافرين سننًا، والسنن تعمل ولا تتعطل ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك نتائج؛ كالنصر أو الهزيمة، والتمكين أو الزوال، والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والغلبة أو الهزيمة، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].

القرآن والسنة يحدثانا عن سنة المغالبة:

أيها المسلمون، لقد أشار القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة إلى سنة المغالبة وفقهها في آيات كريمة، منها في قصة يوسف عليه السلام قول الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]، وفيها بيَّن الله تعالى أنه غلب على أمر يوسف عليه السلام يسوسه ويدبِّره ويحوطه، ويرعاه، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 – 173]، هذا ما فرضه الله وكتبه في قضائه، ولا بد أن يكون،  {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، ويقول الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، إن يمددكم الله بنصره ومعونته فلا أحد يستطيع أن يغلبكم، ويقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، وهذه بشارة عظيمة لمن قام بأمر الله، وصار من حزبه وجنده، أن له الغلبة، وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى، فآخر أمره الغلبة والانتصار، ومن أصدق من الله قيلًا، ويقول الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، والمقصود بالآية الكريمة: تقرير سنة من سننه-تبارك وتعالى- التي لا تتخلَّف، وأن النصر سيكون حليفًا لأوليائه، في الوقت الذي علمه وأراده.

 

وفي السنة النبوية من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالتَّيسيرِ، والسَّناءِ والرِّفعةِ بالدِّينِ، والتَّمكينِ في البلادِ، والنَّصرِ، فمَن عمِلَ منهُم بعملِ الآخرةِ للدُّنيا، فليسَ لهُ في الآخرةِ مِن نصيبٍ»؛ (صحيح الترغيب) .

سنة المغالبة تكون البداية محرقة:

أيها المسلمون، إن سنة المغالبة قد تبدأ في بعض الأحيان في التمحيص والابتلاء، وهي واحدة من وظيفة السنن التربوية تتجلَّى فيها تربية الإنسان، وتصحح أخطاءه، وترجعه إلى الصواب، والأخذ بيده إلى السداد والتوفيق؛ لأن هذه التربية والبداية المحرقة من الابتلاء والتمحيص جعلها مقدمة لتسلم الأمة مقاليد القيادة، ليعدها الله بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض. والابتلاء في سنة المغالبة هو من أجل تطهير الأمة المسلمة من كل الشوائب والآفات، حتى لا يبقى فيها أثر للمساوئ والمعايب، وبذلك تتفادى الوقوعَ في الكوارث والنوائب والأزمات، في وقت الغلبة والتمكين، ويصبح مجتمعًا صالحًا، جديرًا بأن يوصف بكونه إنسانيًّا؛ لأنه ينهج نهجًا أخلاقيًّا قيميًّا ربانيًّا يقوم على العدل والحرية والمساواة.

 

وقد قُرن ذكر الابتلاء بخلق الإنسان؛ ليعلم العبد أنه منذ وجد وهو في ابتلاء إلى أن يموت، وأن تكليفه بالدين ابتلاء، وأنه في سيره إلى ربه سبحانه يعيش مرحلة ابتلاء  {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2، 3]، وأن هذه الدنيا ميدان البلاء؛ لتكون الآخرة جزاء على الابتلاء، وذلك أن الله تعالى خلق الحياة للابتلاء، وجعل ما بعد الموت للبعث والجزاء، قال الله تعالى:  {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، ويبتلي الله الناس بعضهم ببعض في أديانهم ومذاهبهم وأفكارهم، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48]، فأهل الحق يدعون غيرهم لما عندهم من الحق، وأهل الباطل يفتنون الناس عن الحق بباطلهم، وهذا أعظم ابتلاء في الأرض؛ لما يسببه من فتنة القلوب وزيغها إلا مَنْ ثَبَّتَه الله تعالى على الحق، قال الله تعالى:  {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53]، وقال الله تعالى:  {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]، وفتنة أهل الباطل لأهل الحق تصل إلى حد استحلال دمائهم وأموالهم، وانتهاك أعراضهم، وأذيتهم في دين الله تعالى بالقول والفعل، قال الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 – 3]، وهذا البلاء الذي يصيب أولياء الله تعالى بأيدي أعدائه مراد لله تعالى، وهو من مقتضيات حكمته سبحانه، وفيه برهان الإيمان واليقين، حين يجود الإنسان بنفسه وماله لله تعالى، وهو مقدمة للغلبة والتمكين لعباده المؤمنين الصادقين، قال الله تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]، وهو ابتلاء تكفر به الذنوب، وترفع الدرجات، وتنال به جنة النعيم، قال الله تعالى:  {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

من سنة المغالبة تكون النهاية المشرقة:

أيها المسلمون، قد يُنعِم اللهُ على الكافرِ نعمَ نفعٍ أو نعمَ دفعٍ، أو نِعَمَ رفعٍ، ولكنه استدراجٌ وإملاءٌ، في صورة إنعام وإعطاء، قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]، وقال الله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]، وقال جل وعلا: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56]، إنه إغناءٌ مشوبٌ بالمصائب والأرزاء، منغَّصٌ بالأمراضِ واللأواءِ، مكدَّرٌ بالخوف والرعب وعدم الهناء، قال الله سبحانه: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31]،وقال جل وعز: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} [آل عمران: 196]، لا يغرنَّكَ ما هم فيه من الاستعدادِ والإمدادِ، لا يغرنَّكَ ما هم فيه من التعالي والاستبداد، لا يغرنَّكَ ما يملكون من القوة والعدة والعتاد؛  {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 197]، وقال جل في علاه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]، ثم يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 – 173]، الوعد بالنصر والغلبة والتمكين سنة من سنن الله الكونية، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء.

 

لقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش، وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة، وأن يقابلوا النفير، وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7، 8]؛ لأنها رسمت الخط الفاصل بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي، والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني، فعاشها الصحابة واقعًا ماديًّا وحقيقةً نفسيةً، وفيها تهاوت قيم الجاهلية.

 

خرج عدوُّ الله أبرهة الحبشي من صنعاء ليهدم بيت الله ويهدم الكعبة، فأخرج الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ليعظم البيت ويفتح صنعاء، وجاء التتار إلى بلاد المسلمين غزاةً، وعادوا- بفضل الله وتوفيقه- دعاةً.

 

وقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر، ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذٍ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم، أو قد يفتح الله للأمة نصرًا في مكان آخر لم يكونوا يتصوَّرونه.

 

أيها الأحبة، لقد هزم المسلمون في أُحُد، فهل كانت تلك النهاية؟! كلا، بل كانت الخاتمة للمؤمنين، وجاء الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا، لقد هزم المسلمون في أُحُد هزيمة شمت فيهم بسببها الأعداء، من المنافقين واليهود والمشركين، ذكر أهل السِّيَر أن عبدالله بن أبي بن سلول والمنافقين يشمتون ويفرحون بما أصاب المسلمين يوم أُحُد، ويظهرون أقبح القول، فيقول عبدالله بن أبي لابنة عبدالله وهو جريح، قد بات يكوي الجراحة بالنار: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي، عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا، فقال ابنه: الذي صنع الله تعالى لرسوله وللمسلمين خير. وأظهر اليهود القول السيئ، فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه، وجعل المنافقون يُخذِّلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه، ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل، وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه، من اليهود والمنافقين، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عمر، إن الله تعالى مظهر دينه، ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم»، قال: فهؤلاء المنافقون؟ قال: «أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟»، قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذًا من السيف، فقد بان لنا أمرهم، وأبدى الله تعالى أضغانهم عند هذه النكبة، فقال: «إني نهيت عن قتل من قال: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، يا بن الخطاب، إن قريشًا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم، حتى نستلم الركن»؛ (انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد)، وهكذا شمت أعداء الإسلام بهزيمة المسلمين؛ لكن النهاية كانت للمؤمنين، وأعَزَّ اللهُ دينَه وأعلى كلمته.

 

أيها المسلم، مهما ينزل بالمسلمين من بلاء وشدة، فإن الله عز وجل سيجعل منه فرجًا، فلا تضيق ذرعًا، فمن المحال دوام الحال، والليالي حبلى، والحكيم  {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، فالخلق خلقه، والأمر أمره، ونحن عبيده سبحانه، وفي ملكه؛ فقد قال سبحانه:  {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]، ولن يغلب عسرٌ يسرينِ، وفي حديث أبي رزين رضي الله عنه: “يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ –يعني أنه قريب التغيير– يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ»، فقال له أبو رزين قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أوَيضحكُ الربُّ؟ قال: «نعم» . قلتُ: لن نعدِمَ من ربٍّ يضحَكُ خيرًا”؛ (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني) .

وصدق الله إذ يقول سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 171 – 179].

كيف نتعامل مع سنة المغالبة وفقهها:

أيها المسلمون، إنَّ الإسلامَ دينُ العزةِ والنصرِ والغلبة والتمكينِ، دينُ الرحمةِ والرأفةِ والرفقِ واللِّينِ، دينُ الحقِّ والصدقِ والعدلِ واليقينِ، دينُ السعادةِ والفَلَاحِ والفوزِ في الدارينِ، ختَم اللهُ به الرسالاتِ، ونسَخ به المللَ والدياناتِ، وجعَلَه طريقَ العزةِ والنجاةِ، ومِفتاحَ الجناتِ، ووسيلةَ الأمنِ والاستقرارِ والاستخلافِ والتمكينِ في هذه الحياةِ.

 

ثم اعلموا أن الله -سبحانه وتعالى- هو القاهر المدبِّر، له الأمرُ مِنْ قبلُ ومِنْ بعدُ، وإليه تُرجَع الأمورُ،  {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 63]، لا مبدِّلَ لكلماته، ولا رادَّ لقضائه، ولا معقِّبَ لحُكمِه.

 

وعَد أولياءَه بالنصرِ والغلبة والتمكينِ، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7، 8]، وقد كتَب الغلبةَ والنصرَ لدِينِه وأوليائه، فقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].

 

كتَب اللهُ الخزيَ على مَنْ حارَب دِينَه وأولياءه،فقال الله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 11 – 15].

 

يبتلي المؤمنين اختبارًا وتمحيصًا: إن الله -تعالى- يبتلي المؤمنين اختبارًا وتمحيصًا، ثم يجعل لهم العاقبةَ، قال الله تعالى:  {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

 

إبطاء النصر: قد يبطؤ النصر على المؤمنين فيَعظُم الخَطبُ، ويشتدُّ الكربُ، ويتأخرُ الفرجُ، حتى تُخيِّم ظنونُ اليأس والقنوط، ثم يأتي نصرُ اللهِ، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

 

الصراع بين الإيمان والكفر: الصراع بين الإيمان والكفر سُنَّة مِنْ سُنَنِ اللهِ، ومنذُ بزَغ فجرُ الإسلامِ وأعداؤُه الكفرةُ له بالمرصاد، يتربَّصون به في كل حاضرٍ وبادٍ، ويتحالفون عليه بالجموع والأعداد؛ لكنَّ اللهَ تكفَّل بحفظِ دِينِه وأوليائه، وجعَل دائرةَ السوء على أعدائه،  {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7، 8].

 

حسن الظن بالله: فأحسِنوا الظنَّ بالله، واعلموا أن سنة المغالبة ذكرت في القرآن كلها في صالح المسلمين،قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وقال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} [آل عمران: 12]، وقال الله تعالى:  {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

_________________________________________________
الكاتب: د. عبدالرزاق السيد


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة – منقذ بن محمود السقار

الإنسان يعيش في وسط هذه الهموم، إذ الدنيا معاشنا، والآخرة معادنا، فكل منها مصلحة للإنسان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *