أَيُّهَا المؤمنون! شهر رمضان تصرَّم عنكم قريبًا من ثلثه، فما أودعت فيه يا عبد الله؟ ماذا عملت فيه من الصَّالِحَات؟ وماذا اتقيت فيه من المحرمات؟ وما سابقت فيه من الفضائل والمكرمات؟
أَيُّهَا المؤمنون! شهر رمضان تصرَّم عنكم قريبًا من ثلثه، فما أودعت فيه يا عبد الله؟ ماذا عملت فيه من الصَّالِحَات؟ وماذا اتقيت فيه من المحرمات؟ وما سابقت فيه من الفضائل والمكرمات؟
شهر رمضان يا عباد الله! ليس لنوم نهاره وسهر ليله، فإنَّ الصَّلَاة أعظم فرضًا من الصِّيَام، ذلكم الَّذِينَ صاموا في النَّهَار، فناموا من بعد الفجر أو قبله، ثُمَّ قضوا صلاة الظهر والعصر وهم نيام، هؤلاء اتقوا الله في جانب عصوه، وعصوه في جانب أعظم منه، ألا وهي: الصَّلَاة، وَالصَّلَاة عمود الإسلام، وهي آكد فرضًا من الصِّيَام عَلَىٰ أهميته.
فانتبهوا لذلك في أنفسكم وفي أولادكم وأهليكم، كما أمركم بذلك ربكم: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]؛ أوامر من الله جَلَّ وَعَلَا في عظائم فرائضه.
أَيْضًا يا عباد الله! من المؤاخذات في الصِّيَام: أن يكون همك من صومك إفطارك وسحورك، فإذا جئنا إِلَىٰ السحور؛ خالفنا فيه سنة نَبِيِّنَا صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي كان يؤخِّر سحوره إِلَىٰ قرب الفجر؛ ففي الصحيحين عن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ زيد بن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “تسحرنا مع النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قمنا إِلَى الصَّلَاة، فقلت: كم كان بين سحوركم وقيامكم؟ قَالَ: قدر قراءة خمسين آية”[1]، يتعازم النَّاس ويتنادوا إِلَىٰ وليمة السحور، فيأكلونها في الساعة الثانية عشرة، أو الحادية عشرة، وَهٰذَا خلاف لسنته عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
لا يكن همّك من صيامك -يا رعاك الله- إشباع بطنك، وإرواء عطشك، وقضاء وترك؛ فَإِنَّمَا شُرع الصوم تهذيبًا لك ولأخلاقك، واستقامةً عَلَىٰ دين ربك، فما تعبدنا ربنا بترك المباحات هٰذَا النَّهَار في رمضان، من طلوع فجره الصادق إِلَىٰ غروب شمسه إِلَّا لنترك المحرمات، ونترك المعاصي والذنوب، في كل أوان، في رمضان وفي غيره.
ثُمَّ أَيْضًا يا عباد الله! إنَّ منَّا من صام، لكنه لم يصم عن الكلام الحرام، ولم يصم عن الغيبة وَالنَّمِيْمَة والريبة، لم يصم عن السَّبّ وَالشَّتْمُ، «ومن لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة أن يدع طعامه ولا شرابه»[2].
منَّا من صام، ولم يصم عن جهالته، ولم يصم عن غضبه وحماقاته، ولم يصم سمعه عن الحرام، ولا بصره عن الحرام، ولا حَتَّىٰ جوفه عن أكل وتعاطي وتعامل من حرام، وَالنَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «فإذا كان صوم يوم أحدكم، فسابَّه أحدٌ أو شاتمه؛ فليقل: إني امرؤ صائم»[3] أي: أنَّ صيامي يرفعني ويسمو بي إِلَىٰ أن أنزل إِلَىٰ مستوى رذيلتك، ومستوى صفاقتك وحماقتك، «ومن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة أن يدع طعامه ولا شرابه»[4].
مضى من رمضان ما مضى، مضى من هٰذَا الشهر ما مضى، فأينك منه من كلام الله يا عبد الله؟ ليس فَقَطْ قراءةً، بل وتدبرًا، ومدار التَّدَبُّر وعموده: وقوفكم عند آيات الرحمة تستنزلونها من ربكم، ووقوفكم عند آيات العذاب والوعيد تستجيرون به، وتستعيذون ربكم منه، هٰذَا هو عماد التَّدَبُّر، فأينكم منه يا عباد الله؟
إنَّ منَّا من لا يعرف القرآن إِلَّا في رمضان، أو في الجمعة، ومنَّا -وَالعِيَاذُ باللهِ- من هو في غفلاته، فَحَتَّىٰ في رمضان لا يعرف من القرآن إِلَّا ما يسمعه من إمامه -وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ-.
أَعَوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ من همزه ونفخه ونفثه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
رمضان يا عباد الله! أيامًا معدودات، فَهٰذَا الَّذِي استثمرها فيا سعده ويا عظيم حظه! وَهٰذَا الَّذِي ذهبت عليه الأيام والليالي سبهللًا يا خسارته ويا خسارة بيعه وتجارته!
عباد الله! من قام مع الإمام حَتَّىٰ ينصرف في صلاة التراويح؛ كُتب له قيام ليلة، كما جاء في الحديث الَّذِي رواه التِّرْمِذِيّ وأحمد عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فما بال بعضنا يقوم مع الإمام تسليمتين أو ثلاث، ثُمَّ يحرم نفسه، فينصرف قبل انصراف إمامه وانقضائه صلاته! هٰذَا حرمانٌ يا عباد الله! ألأجل منظرٍ ينظره؟ أو مشاهدة يشاهدها؟! أو لعاعة من الدنيا يطلبها؟! إنَّها ليالي ما أسرع ما تنقضي، وأيامٌ ما أسرع ما تمضي، والموفَّق فيها من وَفَّقَهُ اللهُ، والمحروم من حرمه الله.
عباد الله! رمضان ليس شهر نومٍ في النَّهَار، ولا سهرٌ عَلَىٰ ما لا يليق في اَللَّيْل، إِنَّمَا هو شهر طاعةٍ وعبادة، شهر موسمٍ من مواسم الله وأيامه، يتعرض فيها عباد الله وأولياءه لنفحاته سُبْحَانَهُ، أتدرون لِمَ؟ لأنَّ لله عَزَّ وَجَلَّ في كل ليلة عتقاء من النَّار، فنسأل الله أن نكون وَإِيَّاكُمْ منهم، وألَّا يحرمنا ذلك بسفاهتنا وقلة بصيرتنا.
ثُمَّ اعلموا عباد الله! أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.
[1] أخرجه البخاري (575)، ومسلم (1097) بنحوه. [2] أخرجه البخاري (1903). [3] أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) بنحوه. [4] أخرجه البخاري (6057).
Source link