مَثَلُ المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم – سالم محمد

إذا أردت أن ترى الإيمان حيًّا يمشي على الأرض، فلا تبحث عنه في كتب الفقه وحدها، ولا في زخارف الشعارات، بل انظر إلى القلوب إذا تعانقت، والأيدي إذا تعاوت، والعيون إذا دمعت

 

إذا أردت أن ترى الإيمان حيًّا يمشي على الأرض، فلا تبحث عنه في كتب الفقه وحدها، ولا في زخارف الشعارات، بل انظر إلى القلوب إذا تعانقت، والأيدي إذا تعاوت، والعيون إذا دمعت لألم البعيد كما تبكي القريب، فذلك هو الإسلام حين يتحوّل إلى جسدٍ حيّ، تشكو فيه العين إن تألّم الإصبع، ويرتجف فيه القلب لأجل جرحٍ في الظفر، وإنك لو تأملت حديث النبي ﷺ: «مَثَلُ المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»  لعلمت أنك أمام أعظم تصويرٍ ربّانيٍّ لعلاقةٍ لا تربطها المصالح، بل يوثّقها الإيمان، ولا تُشعلها الظروف، بل يُوقظها نور اليقين.

حين تنظر في هذا الحديث النبوي الشريف، تكاد ترى بين كلماته روحًا حيّةً تسري في جسد الأمة، كما تسري الدماء في العروق، وكأنما هو مرآة تعكس حقيقة الإيمان إذا سكن القلوب، وأثمر سلوكًا في الأرض، وعمرانًا في النفس والمجتمع، روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «مَثَلُ المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»  فهذه الكلمات النبوية لا تقف عند وصف خُلقٍ من أخلاق الفرد، ولا عند رسم علاقة بين شخصين، بل هي تصورٌ شاملٌ لبنية الأمة كلها، نظامًا ربّانيًا متكاملاً، قاعدته الحب، وسقفه الرحمة، وأركانه التعاطف.

قد يمرّ على سمعك التوادّ، فتظنه تحابًّا عابرًا أو مشاعر مكنونة لا تتجاوز حدود القلوب، لكن النبي ﷺ يرفعه ليكون من خصائص “المؤمنين” لا الناس عامة، أي أن التوادّ صفة إيمانية لا يتم إيمان المرء إلا بها. والتوادّ هنا لا يعني مجرد محبة خافتة، بل هو ميلٌ قلبيٌّ يُترجم إلى أفعال، وتُثمر عنه مواقف: تعين الملهوف، وتواسي المحزون، وتغفر الزلة، وتستر العيب.

ثم يأتي “التراحم في الحديث، وكأن النبي ﷺ ينقلك من مرتبة الشعور إلى مرتبة الفعل، فليس كل من أحبّ، رحم، ولكن من رحم لا بد أن يكون قد أحبّ. والرحمة في الإسلام ليست مجرّد مشاعر، بل سلوك عملي، عبّر عنه النبي ﷺ حين قال: «(الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)» وهذه الرحمة لا تتحدد بجنس، ولا تنحصر في فئة، بل هي شاملةٌ لكل مخلوق: إنسانًا كان أو حيوانًا، مسلمًا كان أو كافرًا، ما لم يكن معتديًا ظالمًا.

أما “التعاطف، فهو المرتبة الثالثة، وفيه يكاد المؤمن يشعر بألم أخيه كما يشعر بألمه، وكأن الأرواح قد توحّدت في جسد واحد، يئنّ إن تألّم طرفٌ فيه، ويغتمّ إن شكا منه جزء. وليس هذا غريبًا، فالإيمان يجعل بين النفوس رباطًا لا تراه العين، لكن تشعر به القلوب.

ثم ينقلنا الحبيب ﷺ إلى صورة بديعة، تأسر الخيال وتربّي النفس: “مثل الجسد”. أرأيت هذا الجسد الواحد؟ إنّه أعظم صورة للوحدة العضوية، إذ كل عضو فيه مرتبط بسائر الأعضاء، لا يعيش مستقلًا، ولا يعمل منفصلًا، فإذا اشتكى إصبع، سهر الرأس، وارتفعت حرارة البدن، واضطرب النوم، وتوقف النشاط، كأن الجسد كلّه قد أُصيب، لا لأن المرض عمّ، بل لأن الألم أصاب جزءًا عزيزًا من الجسد.

وهذا هو الإسلام في علاقات المؤمنين: إذا مرض أخوك، دعوت له؛ وإن جاع، أطعمتَه؛ وإن ظُلِم، نَصَرتَه؛ وإن أخطأ، نصحتَه. لا تنفصل عن آلامه، ولا تتعالى على همومه، بل تشاركه الألم كما تشاركه الفرح.

وقد عبّر عن ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾} ]الحجرات: 10 [

وهذه الأخوة ليست شعارًا يُرفع، بل هي عقد إيماني لا يُنقض، ومسؤولية متبادلة لا تسقط، وتعاون على البر والتقوى، وحضور في المواقف بقدر المستطاع.

لكن لنتساءل بمرارة الصدق: هل واقع المسلمين اليوم يعكس هذا النموذج النبوي؟ وهل ما بيننا من علاقات وتواصل وتفاعل يشبه ما بين الأعضاء من ترابط؟ أم أنّنا أمة مجزّأة، كلّ جزء منها يئنّ في صمت، وسائر الجسد غافلٌ، أو متعامٍ، أو مشغولٌ بذاته؟

كم من يتيمٍ يصرخ في الخفاء، ولا يسمعه أحد؟ وكم من جائعٍ من أبناء المسلمين، يُفتّش عن لقمة فلا يجدها، بينما إخوته يرفلون في النعيم؟ وكم من جاهل يتخبط في ظلمات الجهل لم يجد من ينير له الطريق، ويرويه من معين العلم، كم من مكلوم في فلسطين، أو مسجون في الصين، أو مطارد في الهند، أو منبوذ في بورما، لا يشعر به أحد إلاّ من ربط الله قلبه برحمةٍ لا تعرف الحدود ولا الجنسيات؟

فحال المؤمن مع إخوانه ليست حالًا دنيويةً مادية، بل حالٌ ربّانية روحية، ينبع منها العطاء، لا ينتظر المكافأة، ويستمر فيها البذل، لا خوفًا من اللوم، بل رجاءً لوجه الله تعالى.

يا أخي الكريم، إن هذا الحديث النبوي ليس فقط موعظة تُلقى، ولا مادةً خَطابية تُتداول، بل هو أساس لتكوين المجتمع الإيماني، وهو دعوة للعودة إلى الأصل الرباني في العلاقات: أن نكون جسدًا واحدًا يربطنا الأيمان بالله، وتوحدنا العقيدة السمحة، نإنُّ مع أنين المظلوم، ونبكي لبكاء المسكين، ونغضب لغضب المضطهد، ونأخذ للمظلوم من الظالم، وننتصر للضعيف ولو بالدعاء.

فاجعل هذا الحديث مِرآتك، تنظر فيها إلى نفسك: هل تسهر لأجل أوجاع إخوانك؟ هل تشعر بأن ألمهم هو ألمك؟ هل جعلت من قلبك مستقرًا لرحمتهم، ومن يدك امتدادًا لاحتياجاتهم؟

إن كنت كذلك، فهنيئًا لك… فأنت من “المؤمنين” الذين شبّههم رسول الله ﷺ بذلك الجسد الواحد. وإن كنت دون ذلك، فأبواب الرحمة والعمل لا تزال مفتوحة، فلا يؤخرنّك عنها إلا ضعف الإرادة أو نداء الشيطان.

يا عبدَ الله، إن لم تُحْيِ قلبك الآن بهذه المعاني النبوية النورانية، فمتى؟! أما ترى أمتك تتداعى من كل جانب؟ أما تشهد آهات المظلومين، ودموع اليتامى، وآلام الثكالى؟ أتراك تنام ملءَ عينيك، وأخوك يسهر من جوعٍ أو خوفٍ أو قهر؟! قم الآن، لا تؤخِّر قلبك عن ركب المؤمنين الذين شبَّههم نبيك ﷺ بالجسد الواحد، كن عونًا للمحتاج، وبلسمًا للمنكسر، ويدًا تمتدّ، وصوتًا يدعو، وقلبًا يرحم، فإنّ الإيمان ليس كلماتٍ تُقال، بل نارًا في الصدر لا تهدأ حتى تطفئ حزن أخيك، وتُفرِح قلبَ حزينٍ من أمة محمد ﷺ.

يا من تهفو روحك للإيمان، يا من تشتاق أن تُرضي ربّك، أفقْ من غفلتك، وانهض من سبات قلبك، وتأمّل هذا الدِّين الذي لا يرضى لك أن تكون فردًا منعزلاً عن آلام إخوانك، بل يريدك لبنةً في بنيان، وعضوًا في جسد، ونبضًا في قلبٍ كبير يُسمّى “الأمة الإسلامية”! أما قرأت قوله ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدُّ بعضه بعضًا؟ أما علمت أن في كل دعوةٍ خالصة لأخيك، في كل بسمةٍ تُدخلها على قلبه، في كل همٍّ تحمله عنه، أجرًا عظيمًا قد يكون هو سرّ نجاتك؟ لا تقل: ما حيلتي؟ لا تلتفت لعجزك، فربّ دعوة في جوف الليل تغيّر أقدارًا، وربّ كلمة صدق تُوقظ قلبًا، وربّ رحمة تُلقيها في قلب يتيم، ترفعك إلى مراتب الصديقين! إن الأمة اليوم لا تحتاج خطباء فقط، بل تحتاج قلوبًا حارّة، لا ترتضي أن ترى عضوًا يتألّم دون أن تهبّ لنجدته، فكن أنت ذلك القلب، كن أنت ذلك المؤمن الذي إذا اشتكى أحدٌ من إخوانه، لم يعرف للراحة طعمًا، حتى يُفرّج الكرب، أو يبذل ما بوسعه وهو يحاول!

فيا من تؤمن بالله واليوم الآخر، اجعل قلبك موصولًا بقلوب إخوانك، واسعَ أن تكون من ذلك الجسد الذي إذا اشتكى عضوٌ منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، ولا تكن جمادًا لا يهتزّ لصرخة مظلوم، أو قبرًا دفن الرحمةَ تحت أنقاض الأنا! دع عنك قسوة الغفلة، وانهض إلى موائد الرحمة، فالإيمان ليس عزلةً باردة، بل دفءٌ يتوزّع، ونورٌ يُهدى، وعطاءٌ لا يعرف الانقطاع، فكن أنت ذلك الجزء الحيّ النابض من جسد أمتك، واذكر أنّ كل دمعةٍ تُمسَح، وكل كربةٍ تُفرَّج، قد تكون مفتاحًا لرحمة الله بك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

أقلع عن الذنوب – طريق الإسلام

المعاصي التي يرتكبها الإنسان هي السبب فيما يصيبه من مصائب، ولذا وجب على الإنسان أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *