تحريك اللسان بالذكر – خالد سعد النجار

ذِكر الله تعالى من أشرف أعمال المسلم، ولا يقتصر الذِّكر على اللسان، بل يكون الذِّكر بالقلب واللسان والجوارح.

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ذِكر الله تعالى من أشرف أعمال المسلم، ولا يقتصر الذِّكر على اللسان، بل يكون الذِّكر بالقلب واللسان والجوارح.

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في «الرياض النضرة»: “وإذا أطلق ذكر الله: شمل كل ما يقرِّب العبدَ إلى الله من عقيدة، أو فكر، أو عمل قلبي، أو عمل بدني، أو ثناء على الله، أو تعلم علم نافع وتعليمه، ونحو ذلك، فكله ذكر لله تعالى”.

وقال الشيخ ابن عثيمين: وذكر الله يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح، فالأصل: ذِكر القلب كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب) [البخاري ومسلم]، فالمدار على ذكر القلب؛ لقوله تعالى: {{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}} [الكهف:28]؛ وذكر الله باللسان أو بالجوارح بدون ذكر القلب قاصر جدّاً، كجسد بلا روح .

وصفة الذِّكر بالقلب: التفكر في آيات الله، ومحبته، وتعظيمه، والإنابة إليه، والخوف منه، والتوكل عليه، وما إلى ذلك من أعمال القلوب .

وأما ذكر الله باللسان: فهو النطق بكل قول يقرب إلى الله تعالى؛ وأعلاه قول: «لا إله إلا الله»

وأما ذكر الله بالجوارح: فبكل فعل يقرب إلى الله كالقيام في الصلاة، والركوع، والسجود، والجهاد، والزكاة.. كلها ذكر لله؛ لأنك عندما تفعلها تكون طائعاً لله؛ وحينئذٍ تكون ذاكراً لله بهذا الفعل؛ ولهذا قال الله تعالى: {{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}} [العنكبوت:45]؛ قال بعض العلماء: أي: لما تضمنته من ذكر الله أكبر؛ وهذا أحد القولين في هذه الآية .

** الواجب في النطق بالتكبير والقراءة وسائر الأذكار أن يحرك الإنسان لسانه وشفتيه على الأقل؛ لأنه بدون ذلك لا يحصل الكلام، وإنما يكون تفكرا وحديث نفس، كما دل على ذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعمَلُوا بِهِ)»  [البخاري ومسلم] فميز بين حديث النفس والكلام.

وقد اشترط الجمهور مع ذلك سماع الإنسان صوت نفسه.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجزئ أن يحرك لسانه ويخرج الحروف دون صوت، وهو مذهب المالكية، والحنفية في قول، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قال الزيلعي -رحمه الله- في «تبيين الحقائق»: “اختلفوا في حد الجهر والإخفاء فقال الهندواني: الجهر أن يُسمع غيره، والمخافتة أن يُسمع نفسه. وقال الكرخي: الجهر أن يسمع نفسه، والمخافتة تصحيح الحروف؛ لأن القراءة فعل اللسان دون الصماخ. والأول أصح؛ لأن مجرد حركة اللسان لا تسمى قراءة بدون الصوت.

وعلى هذا الخلاف: كل ما يتعلق بالنطق، كالتسمية على الذبيحة، ووجوب السجدة بالتلاوة، والعتاق والطلاق والاستثناء”.

وقال ابن ناجي في «شرح الرسالة»: “والقراءة التي يُسر بها في الصلوات كلها: هي بتحريك اللسان بالتكلم بالقرآن، وأما الجهر فأن يُسمع نفسه ومن يليه إن كان وحده. اعلم أن أدنى السر أن يحرك لسانه بالقرآن، وأعلاه أن يسمع نفسه فقط، فمن قرأ في قلبه فكالعدم، ولذلك يجوز للجنب أن يقرأ في قلبه. وأدنى الجهر أن يسمع نفسه ومن يليه، وأعلاه لا حد له”.

وقال ابن أبي زيد المالكي في الرسالة مع شرحه: “والقراءة التي يسر بها في الصلاة كلها هي بتحريك اللسان بالتكلم بالقرآن، وأما الجهر فأن يسمع نفسه ومن يليه، وَأَمَّا إجْرَاءُ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الصَّلَاةِ إذْ لَا يُعَدُّ قِرَاءَةً، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ لَا يَقْرَأُ بِهِ [أي لو حلف لا يقرأ سورة من القرآن فنظَر فيها وفهمها ولم يحرك لسانه لم يحنث لأنه لم يقرأ، وإنما نظر فقط] … ولَا بُدَّ فِي جَمِيعِ أذكار الصلاة مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ .. إذْ مُجَرَّدُ الْإِجْرَاءِ عَلَى الْقَلْبِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا أَدْعِيَةٍ”.

وقال الحطاب في «مواهب الجليل»: قال في التوضيح في قول ابن الحاجب في كتاب الصلاة: ولا يجوز إسرار من غير حركة لسان; لأنه إذا لم يحرك لسانه لم يقرأ، وإنما فكر, وانظر هل يجوز للجنب ذلك؟”.

قلت: نقل البرزلي في مسائل الأيمان عن أبي عمران: الإجماع على أن القراءة بالقلب لا يحنث بها، ووقع الإجماع على أن للجنب أن يقرأ ولا يحرك لسانه”.

وقال النووي -رحمه الله- في «المجموع»: “وأدنى الإسرار أن يُسمع نفسه، إذا كان صحيح السمع ولا عارض عنده من لغط وغيره. وهذا عام في القراءة والتكبير والتسبيح في الركوع وغيره والتشهد والسلام والدعاء، سواء واجبها ونفلها؛ لا يحسب شيء منها حتى يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض. فإن لم يكن كذلك رفع بحيث يسمع لو كان كذلك، لا يجزيه غير ذلك, هكذا نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب”.

وقال في «الأذكار»: “اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها، واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له”.

وقال المرادوي -رحمه الله- في «الإنصاف»: ” قوله (وبالقراءة بقدر ما يسمع نفسه) يعني أنه يجب على المصلي أن يجهر بالقراءة في صلاة السر، وفي التكبير وما في معناه، بقدر ما يسمع نفسه. وهذا المذهب، وعليه الأصحاب. وقطع به أكثرهم.
واختار الشيخ تقي الدين الاكتفاء بالإتيان بالحروف، وإن لم يسمعها، وذكره وجها في المذهب. قلت: والنفس تميل إليه.

واعتبر بعض الأصحاب سماع مَن بُقربه. قال في الفروع: ويتوجه مثله في كل ما يتعلق بالنطق كطلاق وغيره. قلت: وهو الصواب.

تنبيه: مراده بقوله (بقدر ما يسمع نفسه) إن لم يكن ثم مانع، كطرش أو أصوات يسمعها تمنعه من سماع نفسه، فإن كان ثم مانع أتى به، بحيث يحصل السماع مع عدم المعارض”.

وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- في «فتاوى ابن باز»: كونه ينوي بقلبه، ويذكر بقلبه، ولا يتكلم بلسانه، ما يسمى قارئاً، ولا يسمى داعيا، ولا يسمى ذاكرا، فهذا ذكر بالقلب، يسمى ذكر القلب، لكن المأمور في الصلاة أن تقرأ كما أمرك الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تقرأ، وكذلك المأمور في الدعاء أن تدعو، ولا تسمى داعياً، ولا قارئاً إلا إذا تلفظت …

وذكر العمل اللسان. فإذا ذكر بقلبه تذكر عظمته، وخوفه، ورجاءه، والشوق إليه -سبحانه وتعالى-، ومحبته.. هذا ذكر في القلب، وذكر اللسان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر والحوقلة، وذكر العمل كونه يصلي، ويصوم، ويتصدق يرجو ثواب الله، هذا ذكر بالعمل مع القلب”.

 

** التهاب الأحبال الصوتية، أو التهاب الحلق أيضا: لا يمنع من تحريك اللسان والشفتين دون صوت، فاحرص على تحريك اللسان والشفتين، لتصح صلاتك فهذا واجب عند الجمهور؛ وتعوذ بالله من وساوس الشيطان، وكسل النفس الأمارة بالسوء.

 

** الأذكار التي تقال باللسان كقراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل، وأذكار الصباح والمساء والنوم ودخول الخلاء.. وغيرها لا بد فيها من تحريك اللسان، ولا يعد الإنسان قد قالها إلا إذا حرك بها لسانه .

نقل ابن رشد في «البيان والتحصيل» عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه سئل عن الذي يقرأ في الصلاة، لا يُسْمِعُ أحداً ولا نفسَه، ولا يحرك به لساناً. فقال:
” ليست هذه قراءة، وإنما القراءة ما حرك له اللسان”.

وقال الكاساني في «بدائع الصنائع»: “القراءة لا تكون إلا بتحريك اللسان بالحروف، ألا ترى أن المصلي القادر على القراءة إذا لم يحرك لسانه بالحروف لا تجوز صلاته. وكذا لو حلف لا يقرأ سورة من القرآن فنظر فيها وفهمها ولم يحرك لسانه لم يحنث”. يعني لأنه لم يقرأ، وإنما نظر فقط .

ويدل على ذلك أيضاً: أن العلماء منعوا الجنب من قراءة القرآن باللسان، وأجازوا له أن ينظر في المصحف، ويقرأ القرآن بالقلب دون حركة اللسان. مما يدل على الفرق بين الأمرين، وأن عدم تحريك اللسان لا يعد قراءة.

وسئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل يجب تحريك اللسان بالقرآن في الصلاة؟ أو يكفي بالقلب؟

فأجاب:

 القراءة لابد أن تكون باللسان، فإذا قرأ الإنسان بقلبه في الصلاة فإن ذلك لا يجزئه، وكذلك أيضاً سائر الأذكار، لا تجزئ بالقلب، بل لابد أن يحرك الإنسان بها لسانه وشفتيه؛ لأنها أقوال، ولا تتحقق إلا بتحريك اللسان والشفتين”.

فالحاصل أن الأذكار التي تقال باللسان في الصلاة وخارجها كالتكبير وقراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل، وأذكار الصباح والمساء والنوم ودخول الخلاء وغيرها لا بد فيها من تحريك اللسان، ولا يعد الإنسان قد قالها إلا إذا حرك بها لسانه.

واشترط جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة أن يكون مع ذلك صوت يسمعه من نفسه، وذهب المالكية والحنفية في قول إلى أنه لا يشترط سماع الصوت، ويكفي تحريك اللسان، وهو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .

وإذا لم يحرك الإنسان لسانه وشفتيه ولو قليلا، كان هذا نظرا بالعين أو تفكرا بالقلب، ولا يكون قولا باللسان، والمطلوب هو القول .

 

** إذا كنت فيما مضى لا تحرك لسانك بالقراءة أو بالتكبير جهلا منك بوجوب ذلك، فنسأل الله أن يعفو عنك، ولا يلزمك إعادة شيء من هذه الصلوات .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» في تقرير عذر الجاهل بما يجب عليه أو بما يشترط لصحة عبادته: “وعلى هذا لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص، مثل: أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ ثم يبلغه النص ويتبين له وجوب الوضوء، أو يصلي في أعطان الإبل ثم يبلغه ويتبين له النص: فهل عليه إعادة ما مضى؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد. ونظيره: أن يمس ذَكَره ويصلى، ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر .

والصحيح في جميع هذه المسائل: عدم وجوب الإعادة؛ لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان؛ ولأنه قال: {{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}} [الإسراء:15]، فمن لم يبلغه أمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شيءٍ معيَّنٍ: لم يثبت حكم وجوبه عليه، ولهذا لم يأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمر وعمَّاراً لما أجْنبا فلم يصلِّ عمر وصلَّى عمار بالتمرغ أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياماً لا يصلي، وكذلك لم يأمر مَن أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر مَن صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء .

ومن هذا الباب: المستحاضة إذا مكثت مدة لا تصلي لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففي وجوب القضاء عليها قولان، أحدهما: لا إعادة عليها – كما نقل عن مالك وغيره- ؛ لأن المستحاضة التي قالت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إني حضت حيضةً شديدةً كبيرةً منكرةً منعتني الصلاة والصيام. أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضي .

وقد ثبت عندي بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادي وغير البوادي مَن يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة: صلِّي، تقول: حتى أكبر وأصير عجوزة ! ظانَّة أنه لا يخاطَب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة كالعجوز ونحوها، وفي أتباع الشيوخ [أي من الصوفية] طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم، فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات سواء قيل: كانوا كفَّاراً أو كانوا معذورين بالجهل … “.

 

** من ابتلي بالبَخَر [الرائحة الكريهة في الفم] ولم يتيسر له ما يزيله به من علاج ودواء، فهو معذور في عدم حضور الجماعة، بل يكره حضوره؛ لئلا يؤذي المصلين، فإن أمكنه إزالته وعلاجه لم يكن معذورا.

قال في «مطالب أولي النهى»: “وكره حضور مسجد وجماعته لآكل نحو بصل أو فجل أو كراث, وكل ما له رائحة كريهة، حتى يذهب ريحه للخبر، ولإيذائه.

وظاهره: ولو لم يكن بالمسجد أحد، لتأذي الملائكة وكذا نحو من به بخر وصنان، وجزار له رائحة منتنة، يستحب إخراجهم دفعا للأذى”.

 

** الدعاء من جملة الذكر الذي ينبغي معه تحريك اللسان والشفاة، وقد علل الفقهاء ذلك بأنه: دون تحريك اللسان، لا يحصل الكلام، وإنما يكون تفكرا وحديث نفس، كما دل على ذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعمَلُوا بِهِ)»  [البخاري ومسلم] فميز بين حديث النفس والكلام.

والتفكر والتدبر أو الذكر القلبي: يثاب الإنسان عليه، لكن لا يقال لمن تفكر: إنه دعا، ولا نعلم ما يفيد أن الدعاء يكون بالقلب.

قال تعالى:  {{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}}  [الأعراف:55]

وقال تعالى: {{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}[الأعراف:205]

وقال تعالى:  {{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}}    [الإسراء:110] قالت عائشة -رضي الله عنها-: “نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الدُّعَاءِ” [البخاري ومسلم]

قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- في «المفهم»: “قد ذكر في الأصل اختلاف عائشة وابن عباس في سبب نزولها، وأيهما كان، فمقصود الآية التوسط في القراءة والدعاء، فلا يُفْرِط في الجهر، ولا يفرط في الإسرار، ولكن بين المُخافتة والجهر، وخير الأمور أوساطها”.

وقال ابن الهمام -رحمه الله-: “واعلم أن القراءة، وإن كانت فعل اللسان، لكن فعله الذي هو كلام، والكلام بالحروف، والحرف كيفية تعرض للصوت، وهو أخص من النفَس، فإنه النفس المعروض بالقرع، فالحرف عارض للصوت، لا للنفس، فمجرد تصحيحها بلا صوت: إيماءٌ إلى الحروف بعضلات المخارج، لا حروف؛ فلا كلام” [فتح القدير]

والحاصل: أن في المسألة قولين معتبرين: وجوب أن يُسمع الإنسان نفسه، أو الاكتفاء بالإتيان بالحروف، ولا يكون ذلك إلا بحركة اللسان والشفتين، ولو قليلا.

ومن تأمل النصوص الواردة في الدعاء يجد فيها التصريح بالقول، وتارة بالنداء وهو رفع الصوت.

قال تعالى:  {{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}}  [آل عمران:38]

وقال:  {{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}}  [الأعراف:151]

وقال:  {{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}}  [طه:25]

وقال:  {{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}} [المؤمنون:26]

وقال:  {{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}} [التحريم:11]

وقال: { {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}}  [الأنبياء:76] .

وقال:  {{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}} [الأنبياء:83]

وقال:  {{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}} [الأنبياء:89] .

ولم نقف على شيء في الدعاء بالقلب دون اللسان.

وسئل الشيخ ابن باز -رحمه لله- ما نصه: “قال بعض أهل العلم: إن الدعاء إذا لم يتلفظ به الإنسان لا يستجاب.

فأجاب: “ما يسمى دعاء. ما يسمى دعاء إلا إذا تلفظ. لابد أن يحرك لسانه”

 

** لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر والتعقل وفهم المعنى، لكن لا يعتبر قارئاً ولا يحصل له فضل القراءة إلا إذا تلفظ بالقرآن ولو لم يسمع من حوله، لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) » [مسلم] .

وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(من قرأ حرفاً من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها) » [الترمذي، والدارمي بإسناد صحيح]، ولا يعتبر  قارئاً إلا إذا تلفظ بذلك.

فقراءة القرآن بالعين فقط دون تحريك اللسان لا تعتبر قراءة، ولا يثاب عليها ثواب القراءة، وإنما هي تدبر للقرآن ويؤجر عليها المسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: النَّاسَ فِي الذِّكْرِ أَرْبَعُ طَبَقَاتٍ:

إحْدَاهَا: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ.

الثَّانِي: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ مَعَ عَجْزِ اللِّسَانِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَ قُدْرَتِهِ فَتَرْكٌ لِلْأَفْضَلِ.

الثَّالِثُ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَهُوَ كَوْنُ لِسَانِهِ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ.

الرَّابِعُ: عَدَمُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ حَالُ الْخَاسِرِينَ”

والأكمل أن يجمع المرء بين القراءة باللسان، والتدبر بالقلب، ولا يشترط لذلك الجهر بالقراءة، بل يكفي تحريك اللسان، ولو كان ذلك بدون صوت.

وينبغي التنبه إلى أن هذا التدبر لا يثاب عليه الإنسان ثواب القراءة، فما رتب من الثواب على القراءة فلابد فيه من تحريك اللسان، ولا يكون المسلم قد ختم القرآن قراءةً حتى يحرك لسانه بالقراءة، ولهذا اتفق العلماء على أنه يجب على المصلي أن يحرك لسانه بقراءة القرآن وبالأذكار الواجبة، فإن لم يفعل لم تصح صلاته.

قال في «مواهب الجليل»: قَالَ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: وَلَا يَجُوزُ إسْرَارٌ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةِ لِسَانٍ; لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحَرِّكْ لِسَانَهُ لَمْ يَقْرَأْ وَإِنَّمَا فَكَّرَ” انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “يجب أن يحرك لسانه بالذكر والواجب في الصلاة من القراءة ونحوها مع القدرة”

 

** من شروط انعقاد اليمين، أن يتلفظ الحالف بيمينه، أي: يحرك لسانه، فإن لم يحرك لسانه، فاليمين غير منعقدة؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: « (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي، مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ)» «» قَالَ قَتَادَةُ: “إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ” [البخاري]

جاء في «فتاوى اللجنة الدائمة»: “إذا كان الحال كما ذكرت من أنك لم تتلفظ بالطلاق جهرا أو سرا، ولا الحلف به، وإنما هو حديث نفس فقط – فهذا لا أثر له، فلا يترتب عليه شيء، لا طلاق ولا كفارة ” انتهى

وتحريك الشفتين أقوى من تحريك اللسان، فإن تحريكهما لا يكاد يحصل إلا مع تحريك اللسان.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ). [صححه الألباني، ومحققو المسند] .

وقد ترجم الإمام البخاري -رحمه الله-: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}} [القيامة:16]، وذكر في الترجمة هذا الحديث القدسي.

قال الملا علي القاري في «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (إِذَا ذَكَرَنِي) أَيْ: بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ (وَتَحَرَّكَتْ بِي) أَيْ: بِذِكْرِي (شَفَتَاهُ): قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا ذَكَرَنِي بِاللِّسَانِ .. ” انتهى .

فهذا يدل على أن تحريك الشفتين يلزم منه تحريك اللسان، وأقوى.

 

**  لا يلزم الجهر بالتسمية قبل الأكل، فلو قالها سراً فقد امتثل أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بالتسمية قبل الأكل، ولكن أقل ذلك أن يحرك بها لسانه، وإن لم يجهر بالصوت .والأفضل له أن يجهر بها حتى يُذَكِّر الناس، ويُعَلِّم الجاهل .

فقد سئل ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- عن سبب قول بعض العلماء باستحباب الجهر بالتسمية للآكل، والإسرار بالتحميد إذا انتهى، فقال: “إنما سُن له الجهر بالتسمية لينبه الآكلين عليها، وعلى الأخذ في الأكل [يعني إذا كان هو كبير القوم فلا يأكلون حتى يبدأ هو]، بخلاف الحمد، فإنه قد يكون فيهم من لم يكتف بعد، ومن ثَمَّ لو علم فراغهم وكفايتهم ينبغي أن يُسن له الجهر لينبههم عليه، ولما لم يوجد ذلك المعنى في الشرب [أي أنه سيشرب بمفرده، فليس هناك أحد ينبهه على التسمية]، كان مخيراً بين الجهر والإسرار، ما لم يكن عالماً يُقتدى به، فيسن له الجهر، كما هو ظاهر، ليعلم من عنده السنة”.

 

** يسن الجهر بالتكبير وبالقراءة في الصلاة الجهرية، ولا يجب، فمن أسر بهما فلا شيء عليه، وصلاته صحيحة. لكن يلزم تحريك اللسان وإخراج الحروف، ولا يكفي النطق بدون ذلك، لا في الصلاة الجهرية ولا في الصلاة السرية. واشترط بعض الفقهاء أن يسمع صوت نفسه، والراجح أنه يكفي تحريك اللسان وإخراج الحروف.

وتفصيل القول في ذلك كما يلي:

1- ذهب جمهور أهل العلم من الشافعية والحنابلة والحنفية في أصح القولين إلى أنه يجب أن يتلفظ المصلي بالتكبير بحيث يسمع صوت نفسه، ولا يجزئه أن يحرك لسانه من غير صوت، وهكذا في كل ذكر قولي، لا يعتد به إذا كان بدون صوت.

2- وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجزئ أن يحرك لسانه ويخرج الحروف دون صوت، وهو مذهب المالكية، والحنفية في قولهم الآخر، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قال الشوكاني: “لم يرد ما يدل على اشتراط أن يُسمع نفسه بل يصدق عليه أنه قول بمجرد التلفظ وهو تحريك اللسان وإن لم يُسمع نفسه”.

وقال ابن قدامة رحمه الله في «المغني»: يجب على المصلي أن يسمعه نفسه [يعني: التكبير] إماماً كان أو غيره، إلا أن يكون به عارض من طرش، أو ما يمنعه السماع، فيأتي به بحيث لو كان سميعا أو لا عارض به سمِعَه، ولأنه ذكر محله اللسان، ولا يكون كلاما بدون الصوت، والصوت ما يتأتى سماعه، وأقرب السامعين إليه نفسه، فمتى لم يسمعه لم يعلم أنه أتى بالقول، ولا فرق بين الرجل والمرأة فيما ذكرناه”.

وقال خليل -رحمه الله- في مختصره: “وفاتحة بحركة لسان على إمام وفذ، وإن لم يسمع نفسه”.

وقال ابن عرفة: وسمع سحنون ابن القاسم يقول: تحريك لسان المسرّ فقط يجزئه وأحبُّ إسماع نفسه”

واختار الشيخ تقي الدين (ابن تيمية) الاكتفاء بالإتيان بالحروف، وإن لم يسمعها، وذكره وجها في المذهب. قلت: والنفس تميل إليه” انتهى .

ورجح الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- ما ذهب إليه المالكية وشيخ الإسلام، قال: “وقوله: ويقول إذا قلنا: إن القول يكون باللسان؛ فهل يُشترط إسماع نفسه لهذا القول؟ في هذا خِلافٌ بين العلماء، فمنهم مَن قال: لا بُدَّ أن يكون له صوتٌ يُسمعَ به نفسَه. وهو المذهب، وإن لم يسمعه مَنْ بجنبه، بل لا بُدَّ أنْ يُسمع نفسَه، فإنْ نَطَقَ بدون أن يُسمعَ نفسَه فلا عِبْرَة بهذا النُّطقِ، ولكن هذا القول ضعيف. والصَّحيحُ: أنه لا يُشترط أن يُسمِعَ نفسَه؛ لأن الإسماعَ أمرٌ زائدٌ على القول والنُّطقِ، وما كان زائداً على ما جاءت به السُّنَّةُ فعلى المُدَّعي الدليلُ. وعلى هذا: فلو تأكَّدَ الإنسان من خروج الحروف مِن مخارجها، ولم يُسمعْ نفسَه، سواء كان ذلك لضعف سمعه، أم لأصوات حولَه، أم لغير ذلك؛ فالرَّاجحُ أنَّ جميعَ أقواله معتبرة، وأنه لا يُشترط أكثر مما دلَّت النُّصوصُ على اشتراطِه. وهو القول” [الشرح الممتع]

 

** ذكر الله تعالى له ثلاثة أحوال: تارة يكون بالقلب واللسان وهو أفضله وتارة بالقلب وحده وهي الدرجة الثانية وتارة باللسان وحده وهي الدرجة الثالثة.

قال الحافظ في الفتح: “ولا يشترط استحضاره لمعناه ولكن يشترط ألا يقصد به غير معناه وإن انضاف للنطق الذكر بالقلب فهو أكمل”. اهــ.

وعليه فإن ذكر العبد لله بلسانه وحده أو بقلبه دون تحريك شفتيه مقبول سواء كان منشغلا بقيادة السيارة أو غير ذلك ولكن أكمله ما تواطأ عليه القلب واللسان -كما أشرنا- ولا حرج في رفع الصوت به ما لم يكن فيه تشويش على الغير، والأفضل الإسرار به لأنه أدعى للخشوع وأبعد عن الرياء.

فلا تتوقف عن التسبيح وذكر الله تعالى بقلبك وإن كان الأفضل أن تجمع معه الذكر باللسان أيضا ففي الصحيحين أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (يقول الله تعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ..) الحديث.

وتحريك اللسان والشفتين لا يجب إلا في الأذكار التعبدية مثل الفاتحة وتكبيرة الإحرام وأذكار الصلاة فلا يكفي فيها مجرد الذكر القلبي.

وأما توقفك عن هذه القربة العظيمة لمجرد أنك تكره أن يراك الناس: فهو خطأ بين فأكثر من تسبيح الله تعالى وذكره -بالقلب واللسان أو بأحدهما- واستعذ به من الرياء ومن الشيطان ولا تترك العمل الصالح خشية أن يراك الناس، وقد علمت أن ترك العمل لأجل الناس رياء.

 

** خارج الصلاة يؤجر الإنسان على إجراء القرآن أو الذكر على قلبه، لكنه لا يؤجر بذلك أجر من قرأ بتحريك لسانه وتضرَّع لربه، وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (إن الله -عز وجل- يقول: أنا مع عبدي إذا هو ذكَرَني وتحرَّكت بي شفتاه).

 

** كتابة الأذكار –كما في مواقع التواصل مثلا- دون تحريك اللسان يرجى أن يثاب المسلم عليه ولاسيما إن صحب الكتابة قصد بالقلب.

قال الإمام النووي في «الأذكار»: “الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعا فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفا من أن يظن به الرياء بل يذكر بهما جميعا ويقصد به وجه الله تعالى…” اهـ.

ومن القواعد المقررة عند العلماء أن الكتابة تقوم مقام النطق.

جاء في «المغني» لابن قدامة: “الكتابة ‌تقوم ‌مقام قول الكاتب بدلالة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان مأمورا بتبليغ رسالته فحصل ذلك في حق البعض بالقول وفي حق آخرين بالكتابة إلى ملوك الأطراف”. اهـ.

ولما في ذلك من نشر للخير فربما ينظر مسلم في تلك الكتابة فيذكر الله بسببها.

لكن الأصل في الذكر هو تحريك اللسان به وأعلى مراتب الذكر ما كان بتحريك اللسان مع حضور القلب ولا يجب على المسلم أن يحرك لسانه بالذكر المستحب وإنما يستحب له ذلك.

قال ابن تيمية كما في «مختصر الفتاوى المصرية»: “يجب أن يحرك لسانه في الذكر الواجب في الصلاة من القراءة ونحوها مع القدرة… ويستحب ذلك في الذكر المستحب… وأكمل الذكر: بالقلب واللسان ثم بالقلب ثم باللسان فقط”. اهـ.

 

** كل عمل صالح يحتسبه المسلم يؤجر عليه، ويكفي في حصول الاحتساب أن يكون الدافع للعمل هو طلب ثواب الله، والقصد من ورائه امتثال أمره تعالى، وحصول أصل الاحتساب يكفي صاحبه لتحصيل ثواب الطاعة كاملا وإن كان جاهلاً بفضائلها تفصيلا، وعلى ذلك فكتابة أو قراءة عبارات الذكر إن احتسب فاعلها فهو مأجور بلا إشكال، ويبقى ما يقع من ذلك دون احتساب محل نظر، والذي يظهر أن صاحبه مأجور أيضا، وإن كان دون الأول في الأجر بلا شك.

قال ابن حجر في «الفتح»: “أفاد العز بن عبد السلام أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة؛ لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة. ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب؛ لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقا، أي المجرد عن التفكر. قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب انتهى. ويؤيده قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (في بضع أحدكم صدقة). ثم قال في الجواب عن قولهم: أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟: (أرأيت لو وضعها في حرام” اهـ.

هذا في حصول أصل الأجر، وأما قدره فيحتاج تعيينه إلى دليل، كما لا يخفى، ولا نعلم دليلا في تقدير ثواب كلمة: (سبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) بمائتين وأربعين حسنة، وقد قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كتبت له عشرون حسنة وحطت عنه عشرون سيئة. ومن قال: الله أكبر، فمثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله، فمثل ذلك. ومن قال: الحمد لله رب العالمين، من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة وحطت عنه ثلاثون سيئة). [أحمد. وصححه الألباني].

وفي صحيح مسلم عن سعد قال: كنا عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة).

 

** الذكر بالقلب عبادة يثاب عليها المسلم والأكمل أن يجمع في ذلك بين ذكر القلب واللسان. والله تعالى قد يطلع الملائكة على ما في نفس الإنسان فتكتب له ما يستحق من الثواب أو العقاب.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة..) الحديث، فإذا كان الهم سرا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه؟

فأجاب: الحمد لله، قد روي عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال: “إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة” والتحقيق: أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحيانا ما في قلب الإنسان: فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك.

وقد قيل في قوله تعالى: {{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} } [ق:16]. أن المراد به الملائكة، والله قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر كما قال عبد الله بن مسعود: إن للملك لمة وللشيطان لمة، فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر.

وقد ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيح أنه قال: ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله قد أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير.

فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان: علم بها الشيطان والحسنة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك علم بها الملك أيضا بطريق الأولى وإذا علم بها هذا الملك أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم. انتهى.

 

خلاصة البحث

// يجوز أن تقرأ القرآن وتذكر الله تعالى وتستغفره بإمرار ذلك على قلبك دون التلفظ به بلسانك بشرط أن يكون ذلك في غير الصلاة لكنها مرتبة في الذكر أقل من التي اجتمع معها تحريك اللسان .

// روي عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: “ما دام قلْب الرَّجُل يذكر الله تعالى فهو في صلاة، وإن كان في السُّوق، وإن تحرَّك بذلك اللِّسان والشَّفتان، فهو أعظم”.

قال الطبري: “والصواب عندي أنَّ إخْفاء النَّوافل أفضل من ظهورها لِمن لم يكن إمامًا يُقتدَى به، وإن كان في محفل اجتمع أهلُه لغير ذكر الله أو في سوق؛ وذلك أنه أسلم له من الرياء.

// ولِمن كان بالخلاء أن يذكُر الله بقلبه ولسانه؛ لأنَّ شغل جارحتين بما يُرضي الله تعالى أفضلُ من شغْل جارحة واحدة، وكذلك شغْل ثلاث جوارح أفضلُ من شغل جارحتَين، وكلَّما زاد فهو أفضل، إن شاء الله تعالى.

// روى أبو يعلى وأحمد وأبو عوانة وابن حبان عن سعد بن أبي وقاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (خير الذكر الخفي) وصححه ابن حبان، لكن ضعفه ابن معين كما في مجمع الزوائد،، قال النووي: ليس بثابت، وذكره العجلوني في كشف الخفاء: وعلى فرض صحته فالمراد به الذكر الذي لا يطلع عليه إلا الله، وليس المراد الذكر القلبي، كما قال تعالى عن زكريا عليه السلام: { {إذ نادى ربه نداء خفياً}} [مريم:3] وقوله تعالى: {{ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}} [الأعراف:55] هذا قول أكثر شراح الحديث وأكثر المفسرين.

// الذكر بلفظه بلسانه دون تفكر يحصل له أجر الذكر باللسان فقط، وهو دون أجر من قاله مع التمعن والتفكر في معناه وهكذا سائر الأذكار.

وينبغي للمسلم أن يحرص على حضور قلبه وتدبر ما يذكر الله به، فالتدبر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في قراءة القرآن لاشتراكهما في المعنى المقصود منهما، وهو التعبد لله.

فالمدار على ذكر القلب؛ لقوله تعالى: {{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}} [الكهف:28]؛ وذكر الله باللسان أو بالجوارح بدون ذكر القلب قاصر جدّاً، كجسد بلا روح .

وصفة الذِّكر بالقلب: التفكر في آيات الله، ومحبته، وتعظيمه، والإنابة إليه، والخوف منه، والتوكل عليه، وما إلى ذلك من أعمال القلوب .

// ومن هذا تعلم أن ذكر اللسان فقط أقل درجة من ذكر القلب واللسان، ولكن فيه أجر في الجملة، وهذا لأن الذكر باللسان -وإن كان أقل درجات الذكر كما تقدم- إلا أنه يحقق فوائد عديدة منها:

تعويد الإنسان على الذكر، وقد أشار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إلى ذلك بقوله لمعاذ: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله) [أحمد]

كما أن فيه شغلاً للسان عن الباطل من الغيبة والنميمة واللغو، كما قيل: “نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل”، كما أنه أعون على طرد الشيطان وأبعد عن الغفلة، قال ابن عباس: في قوله تعالى: {{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}} {} [الناس:4]، الشيطان جاثم على قلب ابن آدم إذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس

قال الغزالي رحمه الله في الإحياء: الاستغفار باللسان أيضاً حسنة؛ إذ حركة اللسان بها عن غفلة خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام، بل هو خير من السكوت عنه، فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه وإنما يكون نقصاناً بالإضافة إلى عمل القلب.

// إذن للذكر ثلاث أحوال:

1/ تارة يكون بالقلب واللسان، وذلك أفضل الذكر.

2/ وتارة بالقلب وحده، وهي الدرجة الثانية، قال الدهلوي في شرح سنن ابن ماجه في شرح حديث: “كان يذكر الله على كل أحواله”. قال: لا يتصور هذا الذكر إلا بالقلب.

3/ وتارة باللسان وحده، وهي الدرجة الثالثة.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

صلاة الفجر – طريق الإسلام

إن من طرق تحصيل النجاح بعد توفيق الله أن تقرأ في اهتمامات الناجحين، وترقُب أفعالَهم، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *