فانظروا عمن تأخذون دينكم – سالم محمد

إن العاقل إذا أراد أن يحفظ دينه، فليجعل هذه القاعدة نصب عينيه: “إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم”

إن من يتأمل أحوال الناس يجِد العَجب العُجاب؛ ترى الرجل يُحكم إغلاق بيته خشيةَ اللصوص، ويختار طعامه بعناية خوفًا من السُّمِّ، ويمضي أيامًا يسأل عن طبيب ماهر ليعالج جسده، لكنه – حين يتعلق الأمر بدينه – يأخذ الفتوى عن كل من هبَّ ودبَّ، ويستمع إلى كل ناعقٍ في الفضائيات، ويتلقَّى أحكام الشريعة من صفحات مجهولة في زوايا الإنترنت!

 

فكيف يرضى العاقل أن يكون دينه – وهو رأس ماله في الدنيا والآخرة – عرضةً للأخذ عن غير أهله؟! كيف يثق بمن لا يعرف حاله، ولا يدري أهو من أهل العلم والورع، أم من المتعالمين وأصحاب الأهواء؟!

 

لهذا صدع الإمام الجليل محمد بن سيرين بتلك الكلمة الخالدة التي أصبحت قاعدةً في طلب العلم: “إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم”.

 

إنها ليست مجرد نصيحة، بل هي سفينةُ نجاةٍ في بحر الفتن، وهي الميزان الذي يميز به المسلم بين العلماء والمتعالمين، وبين ورثة الأنبياء وأدعياء العلم.

 

فما معنى هذه القاعدة؟ ولماذا شدَّد السلف على خطورة التلقي عن غير الثِّقات؟ وكيف نميز بين العالم الرباني والمتحدث بغير علم؟ هذا ما سنحاول إيضاحه في السطور القادمة، والله المستعان.

 

ليس كل طريق موصلًا إلى المقصود، ولا كل ماء عذبًا زُلالًا، ولا كل كلمة حقًّا، فإن الكلمة إنما تأخذ قيمتها من قائلها، ومصدرها، والنية التي قيلت من أجلها، وهذه قاعدة من القواعد التي وضعها أئمة الإسلام، قاعدة تلزم كل طالبِ علمٍ أن يضبط ميزانه، وأن يزِن بها أقوال الرجال، وأفعالهم، ومناهجهم، قبل أن يأخذ عنهم العلم، وهي كلمة قالها الإمام الجليل محمد بن سيرين رحمه الله، ذلك التابعيُّ الذي أدرك الصحابة وروى عنهم، فأدرك كيف يختلط في الدين الحقُّ بالباطل، وكيف يتسلل الدخيل إلى الأصيل، فكان حريصًا على تنبيه المسلمين إلى خطورة التلقي العشوائي، فقالها قاعدةً جليلة: “إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم”.

 

ولو لم يكن في هذه الكلمة إلا أنها صارت شعارًا لأهل الحديث والأثر، وسُلَّمًا للتمييز بين العلماء وأدعياء العلم، لَكفاها ذلك شرفًا وفضلًا.

 

إن الإسلام لم يكن يومًا مجردَ طقوس تمارسها الجوارح، ولا عباداتٍ تؤدَّى بلا علم ولا فهم، بل هو دين أقام الله بنيانه على العلم؛ فكان أول ما نزل من الوحي: {اقْرَأْ} [العلق: 1]، وكان من أعظم صفات نبيه صلى الله عليه وسلم أنه {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]، فالعلم الشرعي هو النور الذي يُهتدى به إلى الله، وهو الميزان الذي تُوزن به العبادات، وهو السياج الذي يحمي الشريعة من تحريف الغالين، وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين.

 

وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يعلمون أن العلم هو باب الدين، فكانوا يحذرون أشدَّ الحذر من تلقِّيه عن غير الثِّقات، وكانوا يختبرون الرجال قبل أن يأخذوا عنهم، فلما كثر الوضَّاعون، وظهر أقوام يدُسون في الدين ما ليس منه، قال ابن سيرين كلمته تلك، ليلفت أنظار طلاب العلم إلى أن الأمر ليس بالتساهل الذي يتصوره البعض، فإن الفساد إذا دخل في العلم، أفسَد العقائد، وأفسد العبادات، وأفسد الأمة كلها.

 

لو أن رجلًا اشتدَّ به المرض، واحتاج إلى دواء يُحيي به جسده، أمَا كان يسأل عن أحذق الأطباء، وأوثقهم علمًا، وأكثرهم خبرة؟ أم كان سيقف عند أي صيدلية على قارعة الطريق، فيأخذ الدواء من غير تثبُّت؟

 

فكيف بمن يريد أن يأخذ العلم الذي يُحيي به قلبه، ويُقيم به دينه، وينجو به في آخرته؟ أليس الأَولى أن يكون أكثر حذرًا، وأشدَّ تثبتًا؟

 

إن الإنسان إذا لم يكن على بينة من مصادر علمه، وقع في شَرَك أهل الأهواء، وأرباب البدع، والذين يُلبسون على الناس دينهم، فيُلقون إليهم بالأباطيل في ثياب الحق، ويُلبسون عليهم أمر الشريعة، حتى يظنوا أنهم على شيء وليسوا على شيء.

 

وقد ابتُليت هذه الأمة في كل عصر بمن يتكلمون في الدين بلا علم، أو بمن يتصدرون للفتوى وهم ليسوا أهلًا لها، فكم من ضالٍّ مضلٍّ، لبِس لِباسَ العالم، وهو جاهل! وكم من متكلِّف افتتح له منبرًا، وشرع يوزع الأحكام، وهو لا يفرق بين الدليل والشُّبهة!

 

لهذا كان العلماء يحذرون أشد التحذير من الأخذ عن كل أحد، وكانوا يقولون: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم”، فليس كل من حمل كتابًا صار عالمًا، ولا كل من حفِظ حديثًا صار فقيهًا، وإنما العلم يُؤخَذ عن أهله؛ أهلِ الورع والتقوى، أهل العلم والدِّيانة، الذين سلكوا طريق العلماء قبلهم، وأخذوا عن الثقات، وأثبتوا أمانتهم في هذا الدين.

 

وإذا كان لا بد من التثبت في الأخذ، فإن أول ما يُنظر فيه هو حال العالم الذي يُقتدى به، فإن وجدناه على الجادة، عالمًا ورِعًا، متبعًا للسنة، محافظًا على أصول الدين، فذاك الذي يُستمع إليه ويُؤخذ عنه.

 

أما إن كان الرجل من الذين يتبعون الهوى، ويهوِّنون أمر البدعة، ويدخلون في الفتوى بغير علم، ويستعجلون القول في الدين بلا أثارة من علم، فذاك الذي يجب الحذر منه.

 

وقد قال الإمام مالك رحمه الله: “لا يُؤخذ العلم عن أربعة ويؤخذ عمن سواهم؛ لا يؤخذ عن معلن بالسَّفه، ولا عمن جُرِّب عليه الكذب، ولا عن صاحب هوًى يدعو الناس إلى هواه، ولا عن شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يُحدث به”[1].

 

فكيف بمن يخالط أهل الأهواء، ويجعل الشبهات دينًا، ويقول على الله بغير علم؟ كيف بمن يطعن في الثوابت، ويتلاعب بالنصوص، ويفسر الدين على هواه؟ كيف يُطمَأن إلى دينه؟ وكيف يُؤمَن جانبه؟

 

ولهذا كان علماؤنا الأوائل لا يأخذون العلم إلا عن الثقات؛ فكان عبدالله بن المبارك يقول: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”، وهذا لأن الإسناد هو سلسلة التوثيق، وهو الميزان الذي يُعرف به الصادق من الكاذب، والثقة من المتساهل، والمتبع من المبتدع.

 

إن الدين أغلى ما يملكه العبد، وهو رأس ماله، وهو سبب نجاته يومَ لا ينفع مال ولا بنون، فكيف يفرط فيه؟ وكيف يسلمه إلى كل من ادَّعى العلم، أو تكلف الفتوى، أو اغترَّ بشهرته وأسلوبه؟

 

كان السلف إذا جاءهم من ينقل حديثًا أو فتوى، قالوا له: “سَمِّ لنا رجالك”؛ لأن العلم لا يُؤخذ إلا بالإسناد، ومن طريق الثقات؛ ولهذا قال الإمام عبدالله بن المبارك: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”، فكما أن الذهب لا يُشترى إلا بعد اختباره، فكذلك العلم لا يُؤخذ إلا بعد التثبُّت من قائله.

 

كل مسلم مسؤول عن دينه، فكما يحرص على طعامه أن يكون طيبًا، وعلى ماله أن يكون حلالًا، فعليه أن يحرص على أن يكون علمه صحيحًا، وأن يكون شيوخه من أهل السنة، ممن ثبتت عدالتهم وأمانتهم، فإن الخلل في العلم يُورِث الخلل في العمل، والانحراف في المصدر يُورِث الانحراف في الطريق.

 

يا عبدَالله، إن دينك هو أغلى ما تملك، هو سر سعادتك في الدنيا، ونجاتك في الآخرة، هو النور الذي يضيء لك ظلمات الطريق، هو الحبل الذي بينك وبين الله، فكيف ترضى أن تأخذه من كلِّ مَنِ ادَّعى العلم، أو من كل من تصدر المجالس، أو من كل من جمَّل كلامه بزخرف القول ليخدع به السامعين؟! أمَا تخشى أن يضيع منك دينك كما يضيع الماء من بين الأصابع، فتجدَ نفسك يوم القيامة واقفًا بين يدي الله، وأنت تحمل بين يديك دينًا مشوَّهًا، مليئًا بالبدع والانحرافات، قد تساهلت في أخذه، ولم تتحرَّ الحق فيه؟!

إنك لو مرِض جسدك، ما قبِلت أن يعالجه إلا أمهرُ الأطباء، ولو كان لك مال، ما استأمنت عليه إلا أوثق الناس، فكيف بدينك، وهو حياتك الحقيقية؟ كيف تأخذه بلا تثبت، وتقبله ممن لا خَلاقَ له في العلم، أو ممن خلط الحق بالباطل؟! إنها أمانة، أمانة عظيمة، فإما أن تحفظها وتصونها، فتلقى الله بقلب سليم، وإما أن تضيعها، فتندم حين لا ينفع الندم، فإياك إياك أن يكون دينك سلعةً رخيصةً تتلقفها من كل بائع، وإياك أن تبيع آخرتك بزخرف القول وغرور الدنيا، فإن العلم دين، والدين حياة، والحياة لا تُعاش إلا بالحق، فاحذر، وتحرَّ، واستمسك بغرس العلماء الربانيين من الصحابة ومن تبعهم بإحسانٍ، قبل أن تندم على ضياع دينك، وحينها لا ينفعك أن تقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، ولكن لا رجوع بعد الفوات!

 

إن دينك هو رأس مالك، وهو أثمن ما تملك، فإياك أن تجعله عرضةً لكل متكلمٍ، أو أن تأخذه عن كل من تصدَّر بلا علم ولا ورع، واعلم أن انحراف الأمم لم يكن إلا حين استمعوا إلى الجهَّال، وتركوا العلماء، فاختلطت عليهم السُّبُل، وزاغت بهم الأقدام، فكانوا كالغريق الذي يتشبَّث بالسراب، حتى أوردهم الباطلُ المهالكَ، فلا تغتر بالبلاغة إن لم يكن معها علم نافع، ولا تخدعنَّك كثرة المتابعين إن لم يكن صاحبها على صراط مستقيم، بل كُن على الجادَّة، واقتدِ بالسلف الصالح، وخُذْ عن العلماء الربانيين، واحذر أهل الأهواء وأرباب البدع، فإنهم لا يضرون إلا من استمع إليهم، تذكر دومًا، وأنت تبحث عن العلم، أن هذا العلم دين، فانظر عمن تأخذ دينك؛ فإنها مسؤولية عظيمة، وفتنة خطيرة، وطريق إما إلى الجنة، وإما – والعياذ بالله – إلى الضياع! فكن ممن يسير على نور، ويتبع الحق أينما كان، ولا يكن لك إمام إلا الدليل، ولا شيخٌ إلا من ثبت علمه وتقواه، واعلم أن من جدَّ وجد، ومن سلك طريق العلماء وصل، ومن استمسك بالحق نجا؛ {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43].

 

إن القرآن والسُّنَّة هما النور الذي أنزله الله لهداية البشرية، وهما الميزان الذي تُوزن به الأقوال والأفعال، لكن فهمهما لا يكون بالأهواء ولا بالعقول القاصرة، بل يكون على ضوء ما فهمه السلف الصالح، من الصحابة الكرام الذين عايشوا نزول الوحي، وتلقَّوا الدين غضًّا طريًّا من فم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم التابعين الذين ساروا على دربهم، ومن تبعهم بإحسان ممن ساروا على الجادة، وعَضُّوا بالنواجذ على السنة، ولم يبتدعوا في الدين ما ليس منه، فإن كل انحراف وقع في الأمة إنما بدأ يومَ أعرض الناس عن هذا الفهم القويم، وراحوا يفسرون النصوص بأهوائهم، ويجعلون العقل حاكمًا على الوحي بدل أن يكون تابعًا له، فضلُّوا وأضلُّوا، وجاؤوا ببدع ما أنزل الله بها من سلطان؛ ولهذا كانت قاعدة: “إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم” تحذيرًا شديدًا من الأخذ عن كل من رفع شعار العلم، دون أن يكون مستنِدًا إلى فَهم السلف الصالح، فكم من زائغٍ عن الحق لبَّس على الناس دينهم! وكم من متكلم في الشريعة بغير علم حرَّف النصوص عن معانيها، فأوجب ما لم يوجبه الله، أو حرَّم ما أحلَّه، أو زيَّن للناس البدع وسمَّاها بغير اسمها، وما ذلك إلا لعدم رجوعهم إلى الفهم الأصيل لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم! فليس العبرة بكثرة الكلام، ولا بجمال الأسلوب، بل العبرة بالمصدر والمنهج، فالعلم دين، والدين لا يُؤخذ إلا من أهله، الذين ساروا على النهج النبوي، فكانوا مصابيحَ هدًى في زمن الظلام؛ كما قال الإمام مالك رحمه الله: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.

 

إن العاقل إذا أراد أن يحفظ دينه، فليجعل هذه القاعدة نصب عينيه: “إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم”، فليبحث عن أهل العلم الصادقين، وليتبع طريق السلف الصالحين، وليحذر أهل البدع والمبتدعين، فإنه إن فعل ذلك سلم له دينه، وصلح له قلبه، وكان على طريق النجاة، ومن ضيَّع ذلك، وقع في المهالك، وابتعد عن الصراط المستقيم.

 

نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، وأن يجعلنا من أهل السنة والاتباع، وأن يحفظ علينا ديننا من كل دخيل، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

 


[1] الآداب الشرعية لابن مفلح (147).


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

بثّ العِلْم – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة لم يَكتفِ ابن باديس بنشر العلم بنفسه، بل كان يُورِّث طلابه نشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *