{سلام عليكم بما صبرتم} – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

مهما كانت دنياك صعبة وبها ابتلاءات، فإنها ستنتهي حتمًا، وستنتقل لدار السلام ودار الإقامة؛ حيث لا تعب ولا نصب، ولا كَدَرَ ولا نكد، ولا مرض ولا مشاكل

نعيش مع بعض آيات سورة الرعد، نسأل الله أن يجعل القرآن ربيعَ قلوبنا، ونور صدورنا، وجِلاء همومنا وأحزاننا، ونسأل الله أن نكون ممن تحُفُّهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرنا الله فيمن عنده.

 

قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]؛ قال السعدي رحمه الله في التفسير: ” {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: إقامة لا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولًا؛ لأنهم لا يرَون فوقها غاية لِما اشتملت عليه من النعيم والسرور، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات، ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم {يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} من الذكور والإناث، {وَأَزْوَاجِهِمْ} أي الزوج أو الزوجة، وكذلك النُّظراء والأشباه، والأصحاب والأحباب، فإنهم من أزواجهم وذرياتهم، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} يُهنِّئونهم بالسلامة وكرامة الله لهم”.

 

مهما كانت دنياك صعبة وبها ابتلاءات، فإنها ستنتهي حتمًا، وستنتقل لدار السلام ودار الإقامة؛ حيث لا تعب ولا نصب، ولا كَدَرَ ولا نكد، ولا مرض ولا مشاكل، ولا ابتلاءات ولا موت، ولا مصائب ولا فراقَ أحِبَّة، دار السلام من كل سوء ومن كل آفة، حتى إن كنت من أبأس أهل الدنيا، فستُغمس غمسة واحدة تُنسيك كل ما مر بك، حتى يُقال لك: «يا بنَ آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدةً قط»؛ (صحيح مسلم)، ومع هذا أيضًا ستقر عيناك بأهلك وأحبتك، ولا ترحل عنهم ولن يرحلوا عنك أبدًا، سيمُنُّ الله عليك ويجمع لك أهلك الصالحين من أزواج وآباء وذرية؛ لتنعموا معًا في جنات عدن، فلا تبغوا عنها تحولًا، فلن يسافر ولدك بعيدًا عنك، ولن تشتاق لأحد من أهلك؛ لأنك ستكون في صحبتهم دائمًا، فأي بلاء هذا الذي يُقارن بهذا النعيم؟!

 

فقط اصبر على صعوبة الطاعة، ومشقة ترك المعصية، وصابِر على الأقدار حتى تلقى الملائكة يستقبلونك، ويدخلون عليك من كل بابٍ مهنئين لك؛ قائلين: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]، وتذكَّر أن الجنة حُفت بالمكاره، وأنها سلعة الله؛ «ألَا إن سلعة الله غالية»، فلا تعجز عن دفع ثمنها، فهي تستحق الغالي والنفيس، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}؛ أي: إقامة أبدية، فلا انتقال من بلد لبلد، ولا نزوح من مكان لمكان، استقرارٌ وطمأنينة لا يبغون عنها حولًا ولا تحولًا، في الدنيا إذا كنت في بلد غريب دائمًا ما يأخذك الحنين إلى بلدك، وتتمنى الرجوع لأهلك وأحبابك، هذا الألم النفسي بالبعد عن الوطن وعن الأهل لن يكون في الجنة؛ لأنها دار السلام، دار المقامة: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35].

 

لو أن مُلكك في الجنة مثل ملكك في الدنيا بالضبط، لفُضِّلت الجنة عن الدنيا؛ لأنها حياة أبدية لا تنتهي، لا تخاف فيها أن يُسلب ملكك أو ترحل عنه، فما بالك وأن مُلكَ أدنى من يدخل الجنة خمس أضعاف مُلك مَلِك في الدنيا؟ فكيف بمن هو أعلى منه منزلة؟!

 

قال مالك بن دينار: “لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثَر خزف يبقى، على ذهب يفنى، قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى؟”.

 

قال تعالى: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23]، من رحمته ولطفه وتودده للمؤمنين – اللهم اجعلنا منهم – أن يُلحق بهم أحبتهم من آباء وأزواج وذرية؛ لتقر أعينهم بهم في الجنة، كما كانوا قرة عين لهم في الدنيا، فلا فرقة ولا تباعد في الجنة، وهذا نعيم الجنة، ومن فضل الله على عباده أن يرفع الأدنى منهم لمنزلة الأعلى؛ ليجمعهم معًا دون أن ينقص أجور أحد منهم؛ كما قال سبحانه في سورة الطور: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهُمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

 

قال تعالى: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23]، اختيار الزوج الصالح ينفعكِ في الدنيا والآخرة؛ فاجعلي صلاحَ الزوج أولوية في اختياركِ لترتفعي معه في الجنة إن شاء الله، وإذا كنتِ تزوجتِ وزوجكِ صالح، فاحمَدي الله على هذه النعمة، وإذا كان غير ذلك، فاسألي الله له الهداية.

 

الاجتماع مع الأهل والأحباب في الدنيا من النعيم المعجَّل في الدنيا، أن يكون أبناؤك حولك مجتمعين غير مسافرين نعمة كبيرة؛ كما قال الله ممتنًّا على الوليد بن المغيرة أن جعل أبناءه حاضرين معه غير مسافرين: {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر: 13]، فاحرص على هذه الجلسات العائلية وصلة الرحم؛ فإنها من معاني الراحة النفسية والسرور في الدنيا والآخرة.

 

قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]، ما أعظمه من تكريم واحتفاء وتهنئة من الملأ الأعلى لعباد الله الصالحين! قال القرطبي في تفسير الآية: ” {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}؛ أي: بالتحف والهدايا من عند الله تكرمة لهم”، وقال ابن كثير: “وتدخل عليهم الملائكة من ها هنا وها هنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند دخولهم إياها تفِد عليهم الملائكة مسلِّمين مهنِّئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصِّدِّيقين والأنبياء والرسل الكرام”.

 

في الدنيا لو كنت أنت – مثلًا – من أوائل الطلبة في الثانوية العامة (مجرد تخيل)، ودعَوكم للتكريم من رئيس البلاد -أنتم وآباءكم – وعندما وصلتم إلى مكان الحفل ودخلتموه، أجلسوكم في قاعة كبار الزوار، واستقبلوكم استقبال الفاتحين بالهدايا والتحف، والورود والأوسمة، وشهادات التقدير والجوائز المالية، وأخذ كبار المسؤولين من وزراء وسفراء ورجال دولة يدخلون عليكم ليسلموا عليكم ويهنئوكم ويبشروكم بكل خير في مستقبلكم؛ لأنكم اجتهدتم وحققتم ذلك النجاح العظيم، كيف يكون شعورك وقتها؟ لا بد أن قلبك سيرقص طربًا وفرحًا وفخرًا، ولله المثل الأعلى، إذا كان هذا نجاحًا دنيويًّا ينتهي بانتهاء الدنيا، فكيف بالفلاح الذي يدوم ولا ينقطع؟ كيف بالملائكة الكرام؟ وكيف بالتحف التي لم ترَها عين قط، ولا خطرت على قلب بشر؟

 

قال تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]؛ قال السعدي: ” {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}؛ أي: حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم، وذلك متضمن لزوال كل مكروه، ومستلزم لحصول كل محبوب، {بِمَا صَبَرْتُمْ}؛ أي: صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية، والجنان الغالية، {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} فحقيقٌ بمن نصح نفسه، وكان لها عنده قيمة، أن يجاهدها، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب، لعلها تحظى بهذه الدار، التي هي مُنْيَةُ النفوس، وسرور الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح، فلمثلها فليعمل العاملون، وفيها فليتنافس المتنافسون”.

 

في الآية سرٌّ من أسرار السَّكِينة النفسية، فمع أول قدم في الجنة؛ دارِ السلام، تزول الهموم والغموم، والأمراض والأوجاع، والآفات والأحزان، والفقد والموت والتعب، وغيرها وغيرها من معاني الابتلاء التي كانت في الدنيا؛ لأنها دار السلام من كل سوء.

 

وفي القرآن مواضعُ أخرى لذكر سلام الله والملائكة على المؤمنين في الجنة؛ سنذكر بعضًا منها:

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46].

 

{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

 

{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46].

 

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].

 

{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44].

 

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].

 

{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58].

 

{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 34].

 

أما قوله تعالى: {بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]؛ ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»؛ (صحيح البخاري)، الدنيا كلها تحتاج إلى صبر لأنها دارُ اختبارٍ وكَبَدٍ ومجاهدة، ومن لا يستطِع أن يصبر، فإنه سيضيع بين الشهوات وهوى النفس، فالطاعة تحتاج لمجاهدة وصبر، والبعد عن المعصية والشهوة، ووساوس الشيطان والنفس، وصحبة السوء يحتاج صبرًا ومصابرة، والرضا بالأقدار يحتاج صبرًا، الفقر والمرض، والألم والمشاكل الزوجية، وتربية الأولاد، والتعامل مع الناس، لا بد لها من صبر، حتى عمل الدنيا من مذاكرة ووظيفة، والسعي على الرزق يحتاج صبرًا، فما من فلاح أخرويٍّ أو نجاح دنيوي، إلا لا بد له من المرور على جسر التعب والمشاقِّ، وهذه سُنَّة الله في خلق الدنيا.

 

فالجنة حُفَّت بالمكاره، فلا بد أن هؤلاء العقلاء أولي الألباب صبروا وصابروا، حتى وصلوا إلى أن يدخلوا الجنة، وتتلقاهم الملائكة مهنئين لهم على صبرهم الطويل في الدنيا، حتى وصلوا أخيرًا إلى دار السلام من كل تعب ونَصَب، وخوف وقلق، فاصبر وصابر ورابط حتى تسمعهم يقولون لك: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]، ويقول لك خزَنة الجنة؛ كما قال الله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73].

 

{فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] نعم العاقبة والمآل، والجائزة والفوز، الجنة دار الأفراح والسرور، والنعيم والحبور، ولمثلها فليتنافس المتنافسون وليعمل العاملون، فسابقوا إلى جنات عدن؛ فهي جنة طابت وطاب نعيمها، فنعيمها باقٍ وليس بفانٍ، دار السلام، وجنة المأوى، ومنزل ثلة الإيمان، والقرآن، فيها والله ما لا عين رأت، كلا ولا سمعت به الأذنان.

_________________________________________________
الكاتب: سمر سمير


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

توكل الأرزاق – محمد بن عبد الله السحيم

همُّ الرزق همُّ يلازم الأنام؛ يُنشّأ عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، وتغص بخبره وتباثِّ تباريحِه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *