إن المتأمل فيما أنعم الله به من عظمة هذا الموسم الكريم من مضاعفة الثواب وعظيم الجزاء فيه بالتقرب إلى الله بالعمل الصالح يجعل المرء يعلم علمًا يقينيًا عظم فضل الله جل وعلا إحسانه لعباده.
ها هي أيام العشر العظيمة عشر ذي الحجة التي لا يخفى على المسلمين فضلها وشرفها وعظم ثواب الأعمال فيها، فأهل الإسلام يدركون شرف هذه العشر، وما من مسلم يكاد أن يخفى عليه هذا الفضل، الذي يبلغهم برحمة الله الحياة الطيبة في الآخرة: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 22، 23].
إلا أن الذي ينبغي أن نتأمل فيه هو هذا التفاوت الذي يكون بين المسلمين في مبادرتهم إلى الخيرات فيها.
إن المتأمل فيما أنعم الله به من عظمة هذا الموسم الكريم من مضاعفة الثواب وعظيم الجزاء فيه بالتقرب إلى الله بالعمل الصالح يجعل المرء يعلم علمًا يقينيًا عظم فضل الله جل وعلا إحسانه لعباده.
فالمسلم يقرأ قول الله جل وعلا معظما هذه العشر بإقسامه بها {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2].
والمراد بالعشر هنا عشر ذي الحجة، وهو ما جاء به النص الصحيح صريحاً فيما رواه أحمد في المسند بسند لا بأس به عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ العَشرَ عَشرُ الأضحى، والوَتْر: يوم عرفة، والشَّفْع: يوم النحر»، (ورواه النسائي في الكبرى والحاكم في المستدرك وبنحوه الطبري في تفسيره).
قال الإمام الطبري رحمه الله: الصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه. انتهى.
والله إذا أقسم بشيء دل على فضله وشرفه.
كما أن الله جل وعلا نوه بما فيها من الفضل فقال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] أيام معلومات، ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأيام المعلومات أيام العشر رواه البخاري تعليقا مجزوما به. وهكذا قال غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
قال الإمام المُهلَّب بن أبي صُفرة الأسدي المَريُّ الأندلسي المتوفى عام 435 للهجرة رحمه الله في كتابه الكوكب الساري شرح صحيح البخاري فيما نقله عنه العلامة ابن بطّال الأندلسي رحمه الله: إنما سميت معلومات؛ لأنها عند الناس كلهم معلومة للذبح فيتوخى المساكين القصد فيها فيُعْطون.
كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام استنهض المسلمين على المبادرة بالأعمال الصالحات في هذه العشر يبين ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ما العمل في أيام أفضلَ منها في هذه» – يعني عشر ذي الحجة – قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» .
ومعنى: يخاطر بنفسه يعني عرضها وألقى بها في الهلاك والخطر، ابتغاء وجه الله.
فدل ذلك على أن الله يحب العمل الصالح في هذه العشر «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر».
وفي رواية أخرى «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب الله من هذه الأيام» وإذا كان محبوبا عند الله كان ثوابه عظيما.
وضرب النبي عليه الصلاة والسلام مثالا في بيان عظمة ثواب العمل الصالح في هذه العشر وهو أن المسلم المتقرب إلى الله بعمل صالح فيها ثوابه أعظم من ذلك المسلم المجاهد الذي خرج بنفسه وماله فاستشهد ولم يرجع لا هو ولا ماله.
ومعلوم لدى المسلمين عظيم فضل الشهداء عند الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فالشهداء معلوم أن منزلتهم بعد الأنبياء والصديقين، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
فإذا بادر المسلم بعمل صالح في هذه العشر كان ثوابه أرجح من ثواب المجاهد في سبيل الله.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في فتح الباري ما حاصله: هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ جليل، وهو نصٌّ في أنَّ العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره، ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء، وهو نصٌّ في أن العمل المفضول يصير فاضلاً إذا وقع في زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة؛ لفضل زمانه. ودلَّ على أن نوافل عَشر ذي الحجة أفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره. انتهى ملخصاً.
وهنا يأتي السؤال: ما العمل الصالح؟ ما العمل الصالح المراد في الحديث؟
إنه كل عمل يحبه الله من أقوال وأعمال ظاهرة أو باطنة، من صلوات وصدقات، من صيام وإحسان ومبرات، من ذكر وتلاوة للقرآن، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحات المحبوبات عند الله جل وعلا.
وبهذا يُعلم أن الأعمال الصالحة لا حدَّ لها، ولكنها تتفاوت في عظم الثواب عند الله، فمنها أصول العمل الصالح وأعظمها حق الله تعالى بتوحيده سبحانه والإخلاص له اعتقاداً وقولاً وعملاً، وهكذا الفرائض الصلاة والزكاة والصيام والحج. وما تفرع عنها من النوافل، كنوافل الصلاة وصلاة قيام الليل، وصلاة الضحى، والصدقات وصيام التطوع وخاصة يوم عرفة، وكثرة ذكر الله ودائه وتكبيره سبحانه، وتلاوة القرآن وتدبره وهكذا صلاة العيد والأضحية.
وهكذا العمل الصالح الذي فيه الإحسان إلى الخلق، كبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الجار وزيارة المرضى، وكفالة اليتامى واتباع الجنائز والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وهكذا إماطة الأذى عن الطريق، والتبسّم والتلطف مع الناس، وتوقير الكبير، والعطف على الصغير، وقضاء حاجات النّاس ومساعدتهم، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والإصلاح بين المتخاصمين، والسعي في الخير وتأليف القلوب.
فكلما لاحت فرصة للعمل الصالح فبادر إليها حتى تدخل نفسك في عداد هؤلاء.
إلا أن ذكر الله بالتهليل والتكبير والتحميد له مزية على سائر الأعمال، لأنه قد جاء النص عليه من نبينا عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في المسند وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد».
فدل ذلك على أن الذكر عند الله جل وعلا في هذه الأيام وإشهاره وإظهاره محبوبا عنده جل وعلا، ولذا كان الصحابة يفعلونه ويُشهرونه، كما يبينه ما رواه البخاري قال: كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
أقول: وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد» دلالة على أن هذا النوع من الذكر المنصوص عليه في هذا الحديث المشتمل على التهليل وهو قول لا إله إلا الله، وحمد الله وتكبيره هو أفضل الأعمال في هذه العشر بعد الفرائض، فهو أفضل من السنن والنوافل المطلقة والمؤكدة.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ثم إن هذه العشر العظيمة الشريفة مشتملة على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام سُئل عن صيام يوم عرفة فقال: «أحتسب على الله أن يكفّر السنة الماضية والآتية»، ولذلك شرع صيامه لعظيم الثواب والجزاء فيه، لغير الحاج.
وتشتمل هذه العشر أيضا على يوم النحر، الذي هو يوم الحج الأكبر، الذي هو يوم العيد، وقد ورد فيه أنه أفضل الأيام عند الله جل وعلا.
قال العلماء: وبالجملة فهذه العشر هي أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث، وفضّل بعض العلماء هذه العشر من ذي الحجة حتى على العشر المشرفة الأخيرة من شهر رمضان، لما يشرع في عشر ذي الحجة من صيام وصلاة وصدقة وغيره، وتمتاز هذه العشر باختصاصها بأداء فريضة الحج فيها. ما عدا ما كان من ليلة القدر فهي الأعظم والأكرم.
وبعد أيها الإخوة المؤمنون: هذا موسم عظيم، الموفق فيه من بادر وشمَّر وسارع وسابق: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، [المائدة: 48]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10-12]. {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114].
فأيام هذه الحياة معدودات سريعة التصرم والانقضاء، وحين يحل الأجل يشعر المرء بالندم وتحضر الأمنيات، كما أخبر الله في كتابه عن تلك اللحظات التي ينطق بها الإنسان النادم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100] فهل يجاب لهذا الطلب والترجي؟ الجواب: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100].
ولذلك حثنا الله على المبادرة بالصالحات: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] فهل يُجاب أحد لهذا الطلب والاستمهال والإنظار؟ الجواب: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11].
فكم من التفريط نقع فيه بسبب التسويف والتأجيل، والمرء لا يعلم أي ساعة هي ساعة وداعه للدنيا، يصبح من الأحياء وقد كتب أنه من الأموات في المساء. ويمسي مع الأحياء وقد كتب أنه مع الأموات في النهار.
فالمؤمن لا يأمن وقت المغادرة والوداع لهذه الحياة الدنيا {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 26-30]، وحينئذ يتمنى ويطلب الرجعة.
فحري بالمؤمن أن يُري الله من نفسه حرصا على الخير حتى يوفقه إليه، لأن نعمة التوفيق للعمل الصالح لا يُعطاها إلا من رفع بها رأسه، وحرص عليها وبادر، فهي كريمة شريفة عظيمة، لا تُعطى إلا لمن أحبه الله. ولذا قال الله تعالى عن هؤلاء الذين حرصوا فأعانهم الله ويسر لهم الخيرات، قال عنهم الله جل وعلا: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7، 8]، {فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي: هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه كما قال سبحانه: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره تعالى وتقدس.
كما أن الله جل وعلا إذا رأى من عبده إعراضا عن الخير برغم ما يشاهده من سنوح الفرصة به ومع ذلك يعرض ويدبر فإن مثل هؤلاء قال الله عنهم: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] لمَ؟ لأنهم لم تتشوف نفوسهم للخير ولم يبذلوا الأسباب، إذ {لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] لو أرادوا الطاعات لبادروا إليها وبذلوا أسبابها ولكن لما تقاعسوا وأعرضوا {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} لأنهم كانوا على هذه الحال من الإعراض والإدبار عن الطاعات، وتشوفهم للمعاصي والسيئات، وهذا من أعظم ما يعاقب به المرء أن يكون أليفاً للسيئات والمنكرات، غير مستنكر لها، ولا متباعد عنها، عياذاً بالله من ذلك.
Source link