الحج يغذي الأرواح المتعبة، ويفتح الأبواب المغلقة، وينفي الفقر المدقع، ويمحو الذنوب المتراكمة، كما ينفي الكير خَبَثَ الذهب والحديد؛ تطبيقًا لقول الرسول ﷺ.
الحج عبادة جامعة، ورحلة مانعة، وثمرة يانعة، ولمة رائعة، يتجمع فيها المسلمون من كل حَدْبٍ وصَوب، من أطراف المعمورة، بالبر والبحر والجو، حفاة عراة، حاسري الرؤوس، سواسية كأسنان المشط، الوزير بجنب الخفير، والصغير مع الكبير، والغني بجوار الفقير، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى والإخلاص، والعمل الصالح، يحدوهم رجاءٌ واحد، ويجمعهم طريق واحد، ويدفعهم هدف واحد، هو رضا الأحد الواحد، يعلون التلبية: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك”، استجابة للأذان الخالد: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27، 28]، يقدرون المشاعر ويعظمون الشعائر: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، ويعظمون البيت: «اللهم زدْ هذا البيت تعظيمًا وتشريفًا، ومهابة وبِرًّا، وزد مَن زاره ممن حج أو اعتمر تعظيمًا وتشريفًا ومهابة»، ويقبِّلون الحجر: ((أعلُم أنَّك حَجَرٌ ما تَنفعُ ولا تَضُرُّ، ولولا أنِّي رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقبِّلُك ما قَبَّلتُكَ))؛ [ (متفق عليه) ].
ويصلون عند المقام: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ويطوفون حول الكعبة في الأرض على نسق واحد مع طواف الملائكة في السماء: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
ويسعون بين الصفا والمروة؛ أخذًا بالأسباب، واستجلابًا للرزق، واستحبابًا للبركة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].
يقبِّلون حجرًا ويرجمون آخرَ؛ طاعة لله واتباعًا لرسول الله، لا لفلسفة العقل، ولا لتعصب الرأي، وإنما لمقتضيات الإيمان وهدى القرآن.
إنها الفريضة المباركة، والنفحة المرفقة، والرحلة الموفقة التي يحج فيها الناس إلى أطهر بقاع الأرض، وأشرف أماكن الدنيا، تلك الأرض التي درج عليها رسول الله، واستقبل فيها وحي الله، شهدت نزول القرآن، وكانت مهوى الأنبياء، ومهبِط الملائكة، ومنبع التقوى، ومصدر الإيمان، هذه الأرض التي أمر الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام بأن يأخذ ولده إسماعيل ويتركه فيها، رضيعًا لاحول له ولا قوة، فيكبَر ويترعرع، ويعاونه بعد ذلك في بناء مسجد الله الحرام في هذه الأرض، ليكون هذا المسجد قبلة كل المسلمين في جمعهم، وفي صلاتهم وفي حجهم: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
إنها الشعيرة الطاهرة التي فرضها الله تعالى على عباده المسلمين؛ لتكون رحلة روحانية، وطريقة سنية، وشريعة ربانية، وعبادة نورانية يتحد عليها كل المسلمين ويبذلون جهدًا في أدائها، متفقين في أركانها، فرحين بفروضها، تنير لهم الطريق، وتطهر لهم القلوب، وتغفر لهم الذنوب: «من حج، فلم يرفث أو يفسق، رجع من حجه كيوم ولدته أمه».
إنها الفريضة التي شرعها الله تعالى على عباده المسلمين لتكون شرطًا لبلوغ الإسلام، واكتمال الدين، وتمام النعمة، على كل مستطيع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
إنه وسيلة لتحطيم فوارق الحياة، وسمو على كل مباهج الدنيا، فلا فرق فيها بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين سادة وعبيد، ولا بين خاص وعام، الجميع فيها يمارسون سلوكًا عمليًّا في الصبر، ونهجًا قويمًا في الجهاد، واحتمال المشاق، ليشهدوا منافع لهم في دينهم ودنياهم.
إنها العبادة الجامعة للمسلمين، الموحدة للمؤمنين، فهم يقرأون كتابًا واحدًا؛ هو القرآن الكريم، ويتبعون نبيًّا واحدًا هو محمد الصادق الأمين، ويعبدون ربًّا واحدًا هو الله الرحمن الرحيم، ويتجهون لقبلة واحدة وهي الكعبة الشريفة في البيت العتيق.
فإذا كانت الصلاة عبادة روحية، وللبدن فيها نصيب، “معراج للملأ الأعلى بعيدًا عن ثقل الأرض وجواذب الحياة”، والصوم عبادة روحية وللصحة فيها نصيب، «صوموا تصحوا»، والزكاة عبادة روحية وللتطهر فيها نصيب: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، فإن الحج عبادة روحية تشمل كل العبادات، فيه الصلاة والصوم والزكاة، وكذلك الحج عبادة اجتماعية يجتمع عليها ألوف مؤلفة من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأشكالهم، فالكل يتخذ الكعبة وجهة واحدة.
وفوق ذلك، فالحج عبادة روحية بالذكر والدعاء، وعبادة اقتصادية بالبيع والشراء، وعبادة سياسية بالتشاور وأخذ الآراء، وعبادة اجتماعية بالحب والإخاء.
وتمتزج شعائر الحج بالروحانيات، في البركة، والهدى، والتقى، في بيت الله العتيق وفي روضته الشريفة.
هناك دراسة للأزهر الشريف توصلت إلى أن الكعبة تمثل جهازًا للعلاج الروحي، مثل أجهزة العلاج بالأشعة، والذي أقام الكعبة على ما هي عليه ملائكة الله بأمر إلهي، فهو سبحانه الذي جعل سحابة تظلل إبراهيم وإسماعيل، وتحدد لهما حدود البيت الذي رفعا قواعده، فإذا الكعبة على هيئة غرفة مربعة، وبجوارها من حدها الشمالي نصف دائرة؛ حجر إسماعيل، يحيط به جدار بارتفاع متر وثلاثين سنتيمترًا.
الحج يغذي الأرواح المتعبة، ويفتح الأبواب المغلقة، وينفي الفقر المدقع، ويمحو الذنوب المتراكمة، كما ينفي الكير خَبَثَ الذهب والحديد؛ تطبيقًا لقول الرسول: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة».
والحج له وقت معلوم “شهور الحجز”، ومكان معلوم “البيت العتيق”، وبشر معلوم “المستطيع ماديًّا وأمنيًّا وصحيًّا”.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد أن صلى بها الظهر، فنزل بذي الحليفة فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى المغرب والعشاء والصبح والظهر، ثم اغتسل غسل الإحرام، ولبس إزاره ورداءه وتطيب، ثم ركب ناقته على البيداء، وأهلَّ بالحج والعمرة.
إنها روحانية الحج؛ حيث تتلاحق الآيات، وتلتقي الذكريات، وتتلاحم العِظاتُ، وتتجمع العبادات، في أفضل بقعة عرفتها الأرضُ، وأكبَرَتْها الدنيا، وجمَّلها الدين، وسطرها التاريخ، وخلَّدها القرآن، وقدَّرها الرحمن، فيه الآيات: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وفيه الأمان والطهارة: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
إن الجانب الروحي للحج يتفوق على نفسه، فيعطينا مشاعرُ لا توصف، وأحاسيسُ لا تُكتب، وشعائرُ لا تُحكى، إنما يستطعمها الذي يؤدِّيها، ويستشعرها الذي يحضرها، ويُحسُّها الذي يلبِّي نداءها، فينظر إلى الكعبة، ويعانق الحَجَر، ويصلي عند المقام، يسعى كما سَعَتْ هاجر، ويطيع كما أطاع إسماعيلُ، ويضحِّي كما ضحى إبراهيمُ عليهم السلام، ويطوف كما طاف محمدٌ عليه الصلاة والسلام، ويقبِّل الحجر كما قبَّل عمر رضي الله عنه؛ فقط عن حبٍّ ورغبة وإخلاص، لعل قدمًا تأتي مكان قدم، وطوافًا يأتي مكان طواف، وسعيًا يأتي مكان سعيٍ، فيزداد الإيمان، ويتنزل الغفران، وينتشر الأمن ويأتي الأمان.
اللهم ارزُقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
_____________________________________________________
الكاتب: خميس النقيب
Source link