إن لعلوِّ الهمة أسبابًا: فمن أهمها مصاحبة ذوي الهمم العالية والأهداف السامية، فإن الإنسان يتأثر بمن حوله، فمن صاحب العلماء صار عالمًا، ومن صاحب العُبَّاد صار عابدًا، ومن صاحب الفُسَّاق صار فاسقًا.
أيها المسلمون، جاء في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن أم الرُّبيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سُراقة، أتَت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ألا تُحَدِّثُنِي عن حارثة- وكان قُتِل يوم بَدْرٍ- فإن كان في الجنَّة صَبَرْت، وإن كان غير ذلك اجْتَهَدْتُ عليه في البُكَاء، فقال: «يا أم حارثة، إنها جِنَان في الجنة، وإن ابْنَك أصَاب الفِردَوْس الأعلى».
وفي صحيح مسلم عن رَبِيعَة بْن كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ بِوضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: «سَلْ»، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟»، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ.
هذان الحديثان يشيران إلى أمر مهم: وهو أن غاية المؤمن في الحياة يجب أن تكون سامية جدًّا.
وأن تكون همته عالية، ولا يرضى بالقليل، ولا بما دون القليل، ففي الحديث الأول رضيت الأم بأن منزلة ابنها في الفردوس الأعلى من الجنة؛ أي: في أفضل مكان فيها.
وفي الحديث الثاني: سأل الصحابي مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، بمعنى أن يكون قريبًا منه، وقريبًا من منزلته فيها.
وعلو الهمة هذا مطلب قد تتطلبه الأنبياء والصالحون من بعدهم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا الله لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفَاعَةُ».
فهو صلى الله عليه وسلم يتطلب تلك المنزلة العالية، وفي هذا إرشاد للمؤمنين أن يتطلبوا ويسعوا للمنازل العالية في الآخرة.
وأما الأنبياء عليهم السلام؛ فهذا نبي الله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام بعد أن كلم الله تعالى وسمع صوت الرب عز وجل، إذ به يقول لله عز وجل: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فتطلبت نفس موسى لرؤية الرب عز وجل بعد سماع كلامه سبحانه وتعالى.
وهذا نبي الله سليمان بن داوود عليهما السلام يقول لله عز وجل: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35].
فسخَّر الله عز وجل له ما تعلمون من الملك العظيم؛ من تسخير الرياح والجن والإنس والطير، ما لم يقع لأحد من البشر حتى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة.
وأما الصالحون: فقد جاء في سيرة الصحابي الجليل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه اجتمع في الحجر- حجر الكعبة- مصعب بن الزبير، وعبدالله بن الزبير، وعروة بن الزبير، وابن عمر. وعبدالملك بن مروان فقالوا: تمنوا.
فقال عبدالله: أما أنا فأتمنى الخلافة؛ يعني: القائل هو: عبدالله بن الزبير
وقال عروة: أن يؤخذ عني العلم.
وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين.
وأما عبدالملك بن مروان، فقال: أما أنا فأتمنَّى الخلافة، فحصلت له الخلافة.
وأما ابن عمر، فقال: أتمنى المغفرة، فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
فانظروا رحمكم الله كيف تميز مطلب ابن عمر عن مطالبهم، فكانت همته أعلى من همتهم جميعًا.
وجاء في الأثر عن الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز أنه قال عن نفسه لزوجته فاطمة بنت عبدالملك: يا فاطمة، إن لي نفسًا توَّاقة، ما نالت شيئًا إلا اشتهت ما هو خير منه، اشتهيتُ الإمارة، [يعني إمارة المدينة المنورة]، فلما نلتها اشتهيت الخلافة، فلما نلتها اشتهيت ما هو خير منها، وهو الجنة!.
وحين خرج العز بن عبدالسلام من دمشق إلى القاهرة مَرَّ في طريقه على مدينة الكرك فاستقبله أميرها وطلب منه البقاء والاستقرار في الكرك، فقال له العز بن عبدالسلام: إن علمي أكبر من الكرك. فلما استقر في القاهرة علا شأنه، وذاع صيته، ثم صار بعد ذلك من أئمة المسلمين.
أيها المسلمون، إن مما أصاب بعض الناس اليوم وليسوا بالقليل، مرض فتور الهمة، وضعف النفس في تحقيق أهدافها، بل العجز عن رسم الأهداف، فالحياة عندهم فوضى، ولا ينظر أحدهم إلى ما هو أبعد من يومه وساعته، مع أن المؤمن مأمور بالسعي والمنافسة في أعمال الخير؛ كما قال الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
أيها المسلمون، إن لعلوِّ الهمة أسبابًا: فمن أهمها مصاحبة ذوي الهمم العالية والأهداف السامية، فإن الإنسان يتأثر بمن حوله، فمن صاحب العلماء صار عالمًا، ومن صاحب العُبَّاد صار عابدًا، ومن صاحب الفُسَّاق صار فاسقًا.
ومن أسباب علو الهمة الطمع في الخير:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبيلِ اللهِ نُودِيَ في الجَنَّةِ: يا عَبْدَ اللهِ، هذا خَيْرٌ، فمَن كانَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّلاةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الجِهادِ، دُعِيَ مِن بابِ الجِهادِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّدَقَةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصِّيامِ، دُعِيَ مِن بابِ الرَّيّانِ. قالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يا رَسولَ اللهِ، ما علَى أحَدٍ يُدْعَى مِن تِلكَ الأبْوابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوابِ كُلِّها؟ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: نَعَمْ، وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ».
فهذا أبو بكر رضي الله عنه طمع في المناداة من أبواب الجنة.
ومن أسباب علوِّ الهمة:
نفع الناس وإسداء الخير لهم، فقد جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن سعد بن عبادة رضي الله عنه قوله: اللهم هب لي حمدًا، وهب لي مجدًا، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن علت همته، وسمت نفسه لمعالي الأمور.
___________________________________________________
الكاتب: ساير بن هليل المسباح
Source link