منذ حوالي ساعة
رغم أنهم عبروا البحر في واحدة من المعجزات الكفيلة باقتلاع بذور الوثنية، إلا أن بني إسرائيل لم يتورعوا عن إظهار شوقهم لعبادة إله محسوس.
رغم أنهم عبروا البحر في واحدة من المعجزات الكفيلة باقتلاع بذور الوثنية، إلا أن بني إسرائيل لم يتورعوا عن إظهار شوقهم لعبادة إله محسوس.
هذه الرغبة العارمة تلقفها السامري ليستخرج الذهب الذي أمر موسى عليه السلام بدفنه، ثم يوقد عليه النار ويصهره، وفي ذهنه صورة عجل المصريين “أبيس”.
ويمضي زمن طويل يقطع خلاله العقل الإنساني مفاوز وبحارا ومحيطات، بل ويقفز بجنون صوب القمر، معلنا عن خطوة علمية وتقنية جبارة، تبدد ظلمات الجهل بما حوله، وتعرض آلاف الأدلة بأن خلف هذا الكون مشيئة عليا تُدبر أمره، وتمسك بأدق تفاصيله. وهي خطوة راشدة بلا شك، وجديرة بأن تحرر العقل من طفولته وخرافاته وحيرته؛ لكن السامري الذي بداخله يأبى إلا أن يحرك الشوق لوثنية أخرى، تجعل من الإنسان إله نفسه ومعبودها.
ترجع كل جماعة إنسانية إلى مثقفيها لمحاولة فهم ما يجري، ثم لتحديد خياراتها المنسجمة مع تطلعاتها للحرية والعدالة، وتقاسم العيش خارج حلبات الصراع والدم. وهو ما يعني بكل تأكيد، أن على عاتق المثقف مسؤولية يجب النهوض بها، وتحمّل تبعاتها باعتباره صوت العقل والضمير الإنساني.
ولأن المثقف تعلو مكانته في المجتمع الحي الذي يتمتع بهامش كبير من الحرية والفاعلية، اقتضت مسؤوليته أن يترصّد الوثنيات التي تطل برأسها هنا وهناك، ويكشف مضارّها للمجتمع. ذلك أن دوره كفاعل اجتماعي هو تحقيق ما يسميه برهان غليون بالألفة الاجتماعية، عن طريق جمع وتوحيد العناصر التي يتألف منها المجتمع، وبث الروح الجمعية فيه ليصبح كيانا حيا، وقادرا على الحركة والتنظيم والتحسين والإصلاح. هذا الدور يبدو باهتا ومترددا في الآونة الأخيرة، بل تكشف بعض المواقف أنه على النقيض تماما، في ظل أحداث هائلة تفكك الاستقرار العالمي المزعوم.
في خضم التغيير الاجتماعي الذي أحدثته تكنولوجيا الاتصال بكل منتجاتها الرقمية، تبلور نقاش مثير حول الثوابت وعوامل الوحدة والاستقرار داخل المجتمعات. وعلى مدار الساعة تطرح مواقع التواصل الاجتماعي انشغالات متعلقة بالدين والهوية والقيم، وصمود التعددية أمام حداثة “سائلة”، تؤمن بالصهر والإذابة.
وفي صلب هذا النقاش الحيوي تشكل مثقفون “صغار”، على حد تعبير آلان دونو، للتأثير في قطاعات الرأي العام المختلفة، ومحاولة إقناع الجميع بأنهم التجسيد المباشر للمثقف الحديث، والمؤهل لتذويب الفجوة الحضارية بين عالمين؛ ساعدهم على ذلك التحول الجوهري الذي أعاد تشكيل وظيفة المعرفة من خدمة ل”الحقيقة”، إلى خدمة المصلحة، سواء كانت غرضا سياسيا أو اجتماعيا، أو مجرد وازع شخصي.
قديما قيل: من تكلم فيما لا يحسنه أتى بالعجائب. وفي المقولة تنبيه إلى مسؤولية المثقف إزاء آرائه ومعارفه واتجاهاته الفكرية. بمعنى أن خوضه في مشاكل المجتمع واهتماماته وانشغالاته يجب أن ينسجم مع شروط التفكير السليم، والطرح الموضوعي المتجرد من الأهواء والنوازع الضيقة، سواء كانت عنصرية أو عقدية أو مذهبية.
يجيد المثقف “الصغير” لعبة الاصطفاف: إما أن تكون معي أو تكون ضدي. لا توجد منطقة رمادية تسمح بتقريب الرؤى ووجهات النظر. كل قضية تحمل في أحشائها بذور معركة، لذا فهو على استعداد دائم لإشعال الحرائق. وقد يملك المثقف “الصغير” معارف وإمكانات تؤهله لأن يصير “كبيرا”، إلا أنه يرسب في امتحان الضمير، فيُعادي الحق على حساب الشهرة، والمكاسب التي يضمنها المتحكمون في المزاج العام.
يُعلن المثقف الصغير عن نفسه بالبدء في التشكيك بمرجعيات الأمة وثوابتها، لا من خلال جهد معرفي أو بحثي، حتى وإن جانب الصواب، وإنما يلجأ في الغالب إلى التعريض، والتهكم، والإساءة تحت ذريعة الحرية والاجتهاد ونزع القداسة عن النصوص. ويبدو الأمر أشبه بالقاعدة التي يتبعها هؤلاء منذ زمن بعيد، كما نبّه إلى ذلك الجاحظ في رسالته (ذم أخلاق الكُتّاب):
” يكون أول بدوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه، ثم يُظهر ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار. فإن استرجح أحد عنده أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتل عند ذكرهم شِدقه، ولوى عند محاسنهم كَشَحه..”
يبحث المثقف الصغير في اصطناع المعارك عن المتحرقين شوقا إلى عجل جديد. فهو على يقين بأن عالم الأفكار لن يسعفه باحتضان مقولاته، لأنه ليس تلميذا للفكرة الجيدة، ويرفض الحقيقة إن جاءت على لسان غيره. لذا فالطريق الملكي للشهرة والانتشار إنما يبدأ بلعبة الاصطفاف التي أشرت إليها، والتي تضج بها مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تتحول جزئيات الحياة العامة، من الفن والرياضة حتى لباس المرأة، إلى اقتتال يومي بين المتنور والظلامي، وبين الحداثي والسلفي، وبين الوطني والعميل الخائن.. إلى غير ذلك من التصنيفات التي تخدم وجود المثقف الصغير ومكانته.
سُئل أعرابي: أتحب أن تُصلب في مصلحة العامة؟ فقال: لا، ولكن أحب أن تُصلب العامة في مصلحتي. وهو نفس الاختيار الذي يتبناه المثقف الصغير حين يجد أن الموروث المحلي لبلاده بمثابة فسيفساء تمازجت داخلها قبائل أو طوائف، فيثير هاجس الأفضلية والأسبقية، بدل أن يقف من هذا الموروث موقف المجاملة الذي يتناسب مع دوره، وتثمينه بما يحفظ تعدديته ولا يُهدرها.
يراقب المثقف الحقيقي العيوب والانحرافات لينقلها بأمانة من الخاص إلى العام. إن هدفه من التعبير عن مواقفه الثقافية والسياسية هو حرصه الشديد على ألا يصبح وسيلة دعائية مضرة بالمجتمع. ومعلوم أن الدور الاجتماعي للمثقف يفرض عليه أن يكون منصتا ومراقبا وموجها، حتى في المنعطفات التي قد يكون شعارها الإجماع ووحدة الصف. لقد كان إدوارد سعيد صورة للمثقف الذي ناهض الصهيونية وفضح مشروعها الإيديولوجي، مثلما ناهض مواقف الرئيس الراحل ياسر عرفات على خلفية اتفاق أوسلو. وكما طارده الصهاينة في أروقة الجامعات الأمريكية، وحاصروا صوته الإعلامي، حتى أن بعض الصحف اضطرت إلى نشر مقالاته في بريد القراء، كذلك حاصرته السلطة الفلسطينية بمنع التداول الذي أصدره وزير ثقافتها ” يحيى خلف”، في حق كتب إدوارد وإصداراته.
قد يجنح المثقف إلى المرونة كوسيلة للبقاء، أما السائرون على خطى السامري فلا يجدون حرجا في التلون، والتحول إلى أدوات تجميل لما يصدر عن مركز القرار، إيمانا بمقولة أن القارئ يشتري الجريدة، بينما يشتري السياسي رئيس التحرير! وهو النهج الذي يكرس الانحناء والهزيمة، والرفض الكافر لتلك الهبة الإلهية، أن يسير المرء باستقامة وخطو منتصب.
Source link