وعلى الرغم من أن هذه الأيام أعظم من أيام رمضان، والعمل فيها أفضل، إلا أنه لا يحصل فيها ولو شيء مما يحصل في رمضان؛ من النشاط في عمل الآخرة، ولا غرو، فالفارق بين الزمنين واضح..
تمهيد:
من رحمة الله تبارك وتعالى أن فاضل بين الأزمنة، فاصطفى واجتبى منها ما شاء بحكمته، قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ} [القصص:68] وذلك التفضيل من فضله وإحسانه؛ ليكون عوناً للمسلم على تجديد النشاط، وزيادة الأجر، والقرب من الله تعالى. ونظرة في واقع الكثير تنبئك عن جهل كبير بفضائل الأوقات، ومن أكبر الأدلة على ذلك: الغفلة عن اغتنامها، مما يؤدي إلى الحرمان من الأجر.
والأمر الذي يحتاج إلى وقفة تأمل: التباين الكبير بين كون عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل فيما سواها، وبين واقع الناس وحالهم في تلك العشر، فالكثير لا يحرك ساكناً، والأكثر لم يقم الأمر عنده ولم يقعد، ومن مظاهر ذلك مثلاً هجر سُنّة التكبير المطلق وهي من شعائر تلك الأيام.
وعلى الرغم من أن هذه الأيام أعظم من أيام رمضان، والعمل فيها أفضل، إلا أنه لا يحصل فيها ولو شيء مما يحصل في رمضان؛ من النشاط في عمل الآخرة، ولا غرو، فالفارق بين الزمنين واضح، فقد اختص رمضان بما لم تختص به العشر، ومن ذلك:
وقوع فريضة الصوم فيه، وهي (فريضة العام) على كل مسلم، مع ما يكون فيها من تربية للمسلم، وزيادة لإيمانه، بخلافالحج فهو فريضة العمر.
ارتباط رمضان بنزول القرآن فيه مما جعله شهر القرآن، وذلك له أثر كبير في إقبال الناس فيه على كتاب الله الكريم.
الترغيب الخاص بقيام لياليه، وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام العشر، وتحري ليلة القدر.
وهذه الأمور الثلاثة جعلت لرمضان جوّاً خاصًّا متميزاً تنقلب حياة النّاس فيه، وتتغير أيًّا كان نوع ذلك التغير. ما يحصل في رمضان من تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النيران، مما يكون له أعظم الأثر في انبعاث الناس للعبادة وحماسهم لها. فيكون ذلك حافزاً للعلماء والدعاة والأئمة والخطباء ليخاطبوا قلوب الناس، ما دامت مقبلة على الخير.
كل ذلك وغيره يجعل هذه العشر ابتلاءً وامتحاناً للناس، فلا يحصل فيها من المعونة على الخير كما يحصل في رمضان، والموفق من وفقه الله، فشمر وجد واجتهد.
فضل عشر ذي الحجة: قد دل على فضلها أمور (انظر: (مجالس عشر ذي الحجة) للشيخ / عبد الله بن صالح الفوزان):
الأول: قال تعالى: {وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2] قال غير واحد: “إنها عشر ذي الحجة”، وهو الصحيح (تفسير ابن كثير، ج4 ص505). ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في تعيينها.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد أنها أعظم أيام الدنيا، وجاء ذلك في أحاديث كثيرة منها قوله: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا: “يارسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» (أخرجه البخاري، ح / 969، و الترمذي، ح / 757، واللفظ له). وقوله: «ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (أخرجه أحمد، ج2ص75، 132، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح)، والمراد في الحديثين: “أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء أكان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من الجمعة في غيره؛ لاجتماع الفضلين فيه” (فتح الباري، ج2ص534).
الثالث: أنه حث على العمل الصالح فيها، وأمر بكثرة التهليل والتكبير.
الرابع: أن فيها يوم عرفة ويوم النحر.
الخامس: أنها مكان لاجتماع أمهات العبادة فيها، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها (فتح الباري، ج2ص534).
أنواع العمل الصالح في أيام العشر:
وحيث ثبتت فضيلة الزمان ثبتت فضيلة العمل فيه، وأيضاً فقد جاء النص على محبة الله للعمل في العشر، فيكون أفضل، فتثبت فضيلة العمل من وجهين.
وأنواع العمل فيها ما يلي:
الأول: التوبة النصوح:
وهي الرجوع إلى الله تعالى، مما يكرهه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً، ندماً على ما مضى، وتركاً في الحال، وعزماً على ألا يعود. وما يتاب منه يشمل: ترك الواجبات، وفعل المحرمات. وهي واجبة على المسلم حين يقع في معصية، في أي وقت كان؛ لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، ثم إن السيئات يجر بعضها بعضاً، والمعاصي تكون غليظة ويزداد عقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم:8]، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: “أن النّصْح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
استغراق جميع الذنوب، و إجماع العزم والصدق، و تخليصها من الشوائب والعلل، وهي أكمل ما يكون من التوبة (انظر: مدارج السالكين، ج1 ص316، 317).
الثاني: أداء الحج والعمرة:
وهما واقعان في العشر، باعتبار وقوع معظم مناسك الحج فيها، ولقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين العبادتين العظيمتين، وحث عليهما؛ لأن في ذلك تطهيراً للنفس من آثار الذنوب ودنس المعاصي، ليصبح أهلاً لكرامة الله تعالى في الآخرة.
الثالث: المحافظة على الواجبات:
والمقصود: أداؤها في أوقاتها وإحسانها بإتمامها على الصفة الشرعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراعاة سننها وآدابها. وهي أول ما ينشغل به العبد في حياته كلها؛ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته» (انظر: مدارج السالكين، ج1 ص316، 317).
قال الحافظ: “وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به: امتثال الأمر، واحترام الآمر، وتعظيمه بالانقياد إليه، وإظهار عظمة الربوبية، وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل”(فتح الباري، ج11 ص351). والمحافظة على الواجبات صفة من الصفات التي امتدح الله بها عباده المؤمنين، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]، وتتأكد هذه المحافظة في هذه الأيام، لمحبة الله للعمل فيها، ومضاعفة الأجر.
الرابع: الإكثار من الأعمال الصالحة:
إن العمل الصالح محبوب لله تعالى في كل زمان ومكان، ويتأكد في هذه الأيام المباركة، وهذا يعني فضل العمل فيها، وعظم ثوابه، فمن لم يمكنه الحج فعليه أن يعمر وقته في هذه العشر بطاعة الله تعالى، من: الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وغير ذلك من طرق الخير، وهذا من أعظم الأسباب لجلب محبة الله تعالى.
الخامس: الذكر:
وله مزية على غيره من الأعمال؛ للنص عليه في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] قال ابن عباس: “أيام العشر” (صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق)، أي: “يحمدونه ويشكرونه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويدخل فيه: التكبير، والتسمية على الأضحية والهدي” (انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج24 ص225)، ولقوله: «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد».
السادس: التكبير:
يسن إظهار التكبير في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق، وغيرها، يجهر به الرجال، وتسر به المرأة، إعلاناً بتعظيم الله تعالى.
وأما صيغة التكبير فلم يثبت فيها شيء مرفوع، وأصح ما ورد فيه: قول سلمان: “كبروا الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً”. وهناك صيغ وصفات أخرى واردة عن الصحابة والتابعين (فتح الباري، ج2 ص536، وقال الحافظ: “وقد أحدث في هذا الزمان زيادة لا أصل لها”).
والتكبير صار عند بعض الناس من السنن المهجورة، وهي فرصة لكسب الأجر بإحياء هذه السنة، قال: «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً» (أخرجه ابن ماجة، ح / 209، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة، ح / 173) وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما (البخاري، كتاب العيدين، باب العمل في أيام التشريق) والمراد: يتذكر الناس التكبير، فيكبرون بسبب تكبيرهما، والله أعلم.
والتكبير الجماعي بصوت واحد متوافق، أو تكبير شخص ترد خلفه مجموعة: من البدع التي ينبغي على المسلم الحريص على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم اجتنابها والبعد عنها، أما الجاهل بصفة التكبير فيجوز تلقينه حتى يتعلم، فإن قيل: إن التكبير الجماعي سبب لإحياء هذه السنة، فإنه يجاب عليه: بأن الجهر بالتكبير إحياء للسنة، دون أن يكون جماعيًّا، ومن أراد فعل السنة، فإنه لا ينتظر فعل الناس لها، بل يكون أول الناس مبادرة إليها، ليقتدي به غيره.
السابع: الصيام:
عن حفصة رضي الله عنها قالت: “أربع لم يكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة (انظر: المسند، ج6 ص287) والمقصود: صيام التسع أو بعضها؛ لأن العيد لا يصام، وأما ما اشتهر عند العوام ولا سيما النساء من صيام ثلاث الحجة، يقصدون بها اليوم السابع والثامن والتاسع، فهذا التخصيص لا أصل له.
الثامن: الأضحية:
وهي سنة مؤكدة في حق الموسر، وقال بعضهم كابن تيمية بوجوبها (انظر: مجموع الفتاوى، ج23 ص162، 164)، وقد أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] فيدخل في الآية صلاة العيد، ونحر الأضاحي، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها، قال ابن عمر رضي الله عنهما: “أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي” (المسند، ج2 ص38، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، والترمذي، ح / 1559، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ح / 261).
التاسع: صلاة العيد:
وهي متأكدة جدًّا، والقول بوجوبها قوي (انظر: الفتاوى، ج23 ص161) فينبغي حضورها، وسماع الخطبة، وتدبر الحكمة من شرعية هذا العيد، وأنه يوم شكر وعمل صالح.
يوم عرفة:
وقد زاد هذا اليوم فضلاً ومزية على غيره، فاستحق أن يخص بحديث مستقل يكشف عن أوجه تفضيله وتشريفه، ومن تلك الأوجه ما يلي:
أولاً: أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:
روى البخاري (ح / 4606): قالت اليهود لعمر: “إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً”، فقال عمر: “إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين كان رسول الله حين أنزلت: يوم عرفة، إنا والله بعرفة”، قال سفيان: “وأشك كان يوم الجمعة أم لا”: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]. وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل؛ لأن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام من قبل، فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ولأن الله أعادالحج على قواعد إبراهيم عليه السلام، ونفى الشرك وأهله، فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد. وأما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة، فلا تتم النعمة بدونها، كما قال الله لنبيه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح من الآية:2] (انظر: لطائف المعارف، ص486، 487).
ثانياً: أنه يوم عيد:
عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» (رواه أبو داود، ح / 2419، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح / 2144).
ثالثاً: أن صيامه يكفر سنتين:
قال عن صيامه: «يكفر السنة الماضية والباقية» (أخرجه مسلم، ح / 1163).
رابعاً: أنه يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار:
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟» (أخرجه مسلم، ح / 1348) قال ابن عبد البر: “وهو يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب، إلا بعد التوبة والغفران، والله أعلم” (انظر: التمهيد لابن عبد البر، ج1ص120).
الأعمال المشروعة فيه:
أولاً: صيام ذلك اليوم:
ففي صحيح مسلم قال: «صيام يوم عرفة أَحْتَسِبُ على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» (مسلم، ح / 1162) وصومه إنما شرع لغير الحاج، أما الحاج فلا يجوز له ذلك. ويتأكد حفظ الجوارح عن المحرمات في ذلك اليوم، كما في حديث ابن عباس، وفيه: “إن هذا اليوم من مَلَك فيه سمعه وبصره ولسانه: غُفر له” (المسند، ج1ص329، وصحح أحمد شاكر إسناده، ح / 3042) ولا يخفى أن حفظ الجوارح فيه حفظ لصيام الصائم، وحج الحاج، فاجتمعت عدة أسباب معينة على الطاعة وترك المعصية.
ثانياً: الإكثار من الذكر والدعاء:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (الترمذي، ح / 2837، ومالك، ج1ص422، ح / 246، وصححه الألباني)، قال ابن عبد البر: “وفي الحديث دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وأن أفضل الذكر: لا إله إلا الله” (التمهيد، ج6ص41). قال الخطابي: “معناه: أكثر ما أفتتح به دعائي وأقدمه أمامه من ثنائي على الله عز وجل، وذلك أن الداعي يفتتح دعاءه بالثناء على الله سبحانه وتعالى، ويقدمه أمام مسألته، فسمي الثناء دعاء” (مجالس عشر ذي الحجة، لعبد الله الفوزان، ص970).
ثالثاً: التكبير:
سبق في بيان وظائف العشر أن التكبير فيها مستحب كل وقت، في كل مكان يجوز فيه ذكر الله تعالى. وكلام العلماء فيه يدل على أن التكبير نوعان:
الأول: التكبير المطلق: وهو المشروع في كل وقت من ليل أو نهار، ويبدأ بدخول شهر ذي الحجة، ويستمر إلى آخر أيام التشريق.
الثاني: التكبير المقيد: وهو الذي يكون عقب الصلوات، والمختار: أنه عقب كل صلاة، أيًّا كانت، وأنه يبدأ من صبح عرفة إلى آخر أيام التشريق (انظر: الفتح، ج2ص535، والفتاوى ج24ص220).
وخلاصة القول: أن التكبير يوم عرفة والعيد، وأيام التشريق يشرع في كل وقت وهو المطلق، ويشرع عقب كل صلاة وهو المقيد.
يوم النحر:
لهذا اليوم فضائل عديدة: فهو يوم الحج الأكبر (سن أبي داود، ح / 1945، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح / 1714، والبخاري، ح / 4657 تعليقًا) وهو أفضل أيام العام؛ لحديث: «إن أعظم الأيام عند الله (تبارك وتعالى): يوم النحر، ثم يوم القرّ» (سنن أبي داود، ح / 1765، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح / 1552، ويوم القر هو: اليوم الذي يلي يوم النحر، سمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى) وهو بذلك أفضل من عيد الفطر، ولكونه يجتمع فيه الصلاة والنحر، وهما أفضل من الصلاة والصدقة (لطائف المعارف، ص482، 483).
وقد اعتبرت الأعياد في الشعوب والأمم أيام لذة وانطلاق، وتحلل وإسراف، ولكن الإسلام صبغ العيدين بصبغة العبادة والخشوع إلى جانب الفسحة واللهو المباح (انظر: الأركان الأربعة، ص60) وقد شرع في يوم النحر من الأعمال العظيمة كالصلاة، والتكبير، ونحر الهدي، والأضاحي، وبعض من مناسك الحج ما يجعله موسماً مباركاً للتقرب إلى الله تعالى، وطلب مرضاته، لا كما هو حال الكثير ممن جعله يوم لهو ولعب فحسب، إن لم يجعله يوم أشر وبطر، والعياذ بالله.
أيام التشريق:
وهي الأيام الثلاثة التالية ليوم النحر (وسميت أيام التشريق؛ لأن الناس يشرقون فيها لحوم الهدي والأضاحي، أي: يقددونها وينشرونها في الشمس)، وهي التي عناها الله تعالى بقوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، كما جاء عن ابن عباس (البخاري تعليقًا، وله إسناد صحيح، الفتح ج2ص530)، وذكر القرطبي أنه لا خلاف في كونها أيام التشريق (تفسير القرطبي، ج3ص3).
وهي أيام عيد للمسلمين؛ لحديث: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى: عيدنا أهل الإسلام» (أخرجه أبو داود، ح / 2419، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح / 2114). وقد نهي عن صيامها، وهي واقعة بعد العشر الفاضلة، فتشرف بالمجاورة أيضاً، وتشترك معها بوقوع بعض أعمال الحج فيها، ويدخل فيها يوم النحر، فيعظم شرفها وفضلها بذلك كله (انظر: فتح الباري، ج2ص532، 533). كما أن ثانيها وهو يوم القر وهو الحادي عشر أفضل الأيام بعد يوم النحر، وهذه الأيام الأربعة هي أيام نحر الهدي والأضاحي على الراجح من أقوال أهل العلم؛ تعظيماً لله تعالى، وهذا مما يزيدها فضلاً، وهذه الأيام من أيام العبادة والذكر والفرح، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله» (أخرجه مسلم، ح / 1141)، فهي أيام إظهار الفرح والسرور بنعم الله العظيمة، وفي الحديث إشارة إلى الاستعانة بالأكل والشرب على ذكر الله، وهذا من شكر النعم (انظر: لطائف المعارف، ص504) وذكر الله المأمور به في الحديث أنواع متعددة منها:
1- التكبير فيها: عقب الصلوات، وفي كل وقت، مطلقاً ومقيداً، كما هو ظاهر الآية، وبه يتحقق كونها أيام ذكر لله (انظر: نيل الأوطار، ج3ص389).
2- ذكر الله (تعالى) بالتسمية والتكبير عند نحر الهدي والأضاحي.
3- ذكره عند الأكل والشرب، وكذا أذكار الأحوال الأخرى.
4- التكبير عند رمي الجمار.
5- ذكر الله تعالى المطلق (انظر: لطائف المعارف، ص501، 502).
هذه ذكرى، أسأل الله أن ينفع بها، وأعوذ بالله من أن يكون أهل البدع أجلد في بدعهم، وأنشط في باطلهم، من أهل الحق في فعل الخير والاستقامة على السنة.
_________________________________________
الكاتب: عبد الحكيم بن محمد بلال
المصدر: مجلة البيان العدد: 99 ذو القعدة 1416 – أبريل 1996
Source link