القرآن هو النصّ المؤسّس لوعي المؤمن، يُعلّمنا أن التدبير لا يُقرأ من ظاهر الحدث، بل من عمقه القدَري. {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا} فتربية القرآن ليست فقط على تأصيل المواقف، بل على هندسة التلقّي ذاته.
في هذا الطوفان المتلاطم من الأخبار المتسارعة، والتعليقات الفورية، والانطباعات التي تتقافز من منصةٍ إلى أخرى، يبرز خللٌ خفي في بنية الوعي المسلم: تناسي تدبير الله، والانجرار إلى مناخ التحليلات الانفعالية التي تُنبت القلق وتُجهد القلب قبل أن تُثمر بصيرة، وفي هذا الازدحام الإدراكي، تتسلل إلى الروح أمراض الخفة: خفة الانفعال، وخفة الرأي، وخفة الموقف، حتى يُخيّل للمرء أن التأنّي بلادة، وأن الصمت بطء، وأن الوقوف على عتبة الانتظار تراجع.
لكن القرآن، وهو النصّ المؤسّس لوعي المؤمن، يُعلّمنا أن التدبير لا يُقرأ من ظاهر الحدث، بل من عمقه القدَري. {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا} فتربية القرآن ليست فقط على تأصيل المواقف، بل على هندسة التلقّي ذاته، وهذه الآية هي قاعدة في إدارة التوتر الجمعي، وترسيخ الإيمان العميق بأن الحوادث الأرضية مهما عَلت، لا تخرق سقف التدبير الإلهي.
التحليل السياسي من حيث هو، أداة معرفية محمودة، لكنه حين يُفتقد ميزان الضبط، ويتحوّل إلى انفعال يومي، واهتزاز عاطفي، وتخندق مسبق؛ فإنه لا يوصلك إلى الحق، بل يُربك عليك البصيرة، ولهذا، لا يدهشنا أن يقول الدكتور دريو ويستن – أستاذ علم النفس السياسي في كتابه- العقل السياسي: دور العاطفة في تقرير مصير الأمة” “في السياسة، عندما يصطدم العقل والعاطفة، تفوز العاطفة حتماً”
وهنا تأتي اللحظة المفصلية التي يتمايز فيها “الواعي” عن “المُترقّب”، و”المستبصر” عن “المُستهلِك” الواعي يزن الأحداث بميزان السنن الربانية، يُدخل المعلومة من باب المصدر الموثوق، ويُبقي قلبه معلقًا بربّ الأسباب، لا بشاشة التحليل. والمُستهلك، يُفتنه الموج، ويغرق في قراءة الوقائع بلا فقه الغايات، ولا استحضار لعظمة المدبّر.
ومن دقائق الموازنة أن تعلم أن الإيمان بالتدبير الإلهي لا يلغي فقه التحليل، لكنه يُهذّبه، ويجعل من “نظافة المصدر” شرطًا، ومن “بطء الانفعال” فضيلة، ومن “السكينة المعرفية”مطلبًا. ومن آيات الله التي تُرسي الطمأنينة في قلب من يخشى التخبّط: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
فهو الغالب،ولو كثر الطنين.
وهو المدبّر، ولو تضخّم التفسير.
وهو العالم، وإن جهل المحلّلون.
وفي زمن الملاحقة اللاهثة للأخبار، حيث تتسابق التحليلات، وتتقافز التعليقات، ويُستنفر العقل في كل ساعة لحدث جديد؛ فإن حراسة القلب من التسرع، والعقل من التلقف، واللسان من التبني العجول، غدت من فروض الوقت. ولذا، فالمؤمن الموفَّق هو من يحفظ لقلبه اعتداله، ويغلق نوافذ التلقّي العشوائي، ويتعاهد صفاء وعيه بتصفية المدخلات، ويتعامل مع كل مشهد سياسي بعينين اثنتين: عين تبحث عن الحقيقة، وعين ترقب تدبير الله وتثق بوعده.
ثم هذه بعض منازل النجاة من غواية التشخيص:
١-طهارة المعلومة قبل طهارة الانفعال:
لا يليق بعقل المؤمن أن يُدخل في قلبه كل ما يُقال، فالمعلومة شأنها شأن الطعام: لا تُؤكل إلا من يدٍ مأمونة.
٢-فسحة الصمت التأملي
السكون عبادة معرفية، لا تسارع في إبداء الرأي، فبعض السكوت بُعد نظر، وبعض التريث صيانة للبصيرة.
٣-اجتناب صخب المتحمسين:
اصطفِ رفقة تتسم بالاتزان، يربطون الحدث بالسنن، لا بالعاطفة، ويزنون الموقف بمقاييس التوحيد لا حرارة اللحظة.
٤- الدعاء بالبصيرة:
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه… فإن زوّاد الطريق في زمن الفتن: يقينٌ وبصيرة.
٥-الحدث خطاب قدَري:
لا تتعامل مع الوقائع كأرقام، بل كمرايا ربانية تُعيد ترتيب الوعي، وتستفزّ فيك سؤال التوحيد.
وهنا يكمن الإيمان العميق: أن تجعل ثقتك الأولى في الله، لا في التحليلات، وأن تُدرك أن ما وراء الستار قدرٌ لا يُدركه التقدير البشري، لكن يُطمئن عليه يقين قوله: {إن ربي لطيف لما يشاء}. فالزم باب الله، وخفّف من زحام المعلومة، وتذكّر دائمًا أن الطمأنينة لا تصنعها الكثرة، بل تصوغها سلامة المدخلات، ونقاء الإيمان، ومراعاة المقام الرباني فوق الحدث الأرضي.
Source link