نَحِنُّ إلى ذلك الوطن – محمد بوقنطار

إننا نَحِنُّ إلى ذلك الوطن الذي سرقت أصالتَه منا الحداثةُ، وتلصّص براءتَه وطهرانيتَه اتباعُ سَنن اليهود والنصارى والشيوعيين والمجوس

نموت ويحيا الوطن…
محمد بوقنطار

ربما لم نكن ندري يومها ونحن الصغار الذين لم يبلغوا الحلم بعد، الحمولة المعنوية والقيمة الرمزية والقدسية القيمية التي تحملها تلك العبارة والشعار الوطني الشائع ليس عندنا في المغرب فقط، بل على امتداد جغرافيا الوطن العربي، لقد كنا نردِّد مبناها بحرارة ونشاط وحيوية، وكأننا في الصف المدرسي في ذلك الصباح البارد الذي كان يتكفل فيه طاقم المطعم المحلي لمدرستنا العمومية بإطعامنا ومدِّ أمعائنا الفارغة بوجبة فطور غنية بالسعرات الحرارية ونحن أبناء الطبقة المطحونة اجتماعيا  في ذلك الوطن العزيز الغالي، وكأننا فيلق جيش في عنبر كبير وسط ثكنة على الحدود، يُهيّـأ زرعنا حتى إذا استوى على سوقه سيق للتو إلى ساحة القتال، إلى الخطوط الأمامية للدفاع عن الوطن وصد أي عدوان محتمل الوقوع على ثغوره وحياضه الغالية، لقد كان السياق الحرفي وحده لهذه العبارة كفيلا بأن يهز مشاعرنا فتقشعر منه جلودنا ثم تلين، ويتكلم الوجدان منا ببوحه الصادق وأننا مستعدون لبذل الغالي من الأرواح، والنفيس من الأبدان من أجل المصلحة العامة للوطن ومقصود حمايته، لقد كانت عبارة: “نموت ويحيا الوطن” تعبيرا قويا وإقرارا صادقا عن حبنا للوطن، وتجسيدا قوليا نتعهد ونقر من خلاله أننا على استعداد تام للتضحية من أجل كل شبر من ربوع مناكبه الضاربة في عمق التاريخ والحضارة…
إنه وطن كان فيه الصغير صغيرا والكبير كبيرا، كان العظيم عظيما والوضيع وضيعا، كان الأمين أمينا والخائن خائنا، كان الصادق صادقا والكاذب كاذبا، كان القدوة قدوة والشاذ شاذًا، كان الشريف شريفا والسافل سافلا، كان القوي قويا والواهن واهنا، كان الطبيب طبيبا والمتاجر متاجرا، كان الرحيم رحيما والصلف صلفا، كان المعلم معلما والمترف مترفا، كان السياسي سياسيا واللص لصا، كان المصلح مصلحا والمفسد مفسدا، كان الغني جوادا وكان الفقير المسكين عفيفا متعففا، كان البنّاء بناءً والهادم هادما، كان الحيي حييا والحقير حقيرا، كان الستر سترا والفضح فضحا، كانت المروءة مروءة والرعونة رعونة، وكان الشهامة شهامة والدناءة دناءة وهلم جرا…
إنه وطن كانت تؤخذ فيه المناصب وتُنال فيه المنازل غلابا، تترتب فيه حصيلة الحقوق على منقبة آداء الواجبات بكل حرص والتزام، لقد كان في وطني التوصيف والتصنيف مبناه على رصيد التضحيات المتبادلة بين الحاكم ومؤسساته والشعب بكل طبقاته، لقد كانت معيارية هذا التصنيف صريحة واضحة الضوابط والشروط، يأخذ كل فرد في المجتمع مكانته بناء على مدى حاجة هذا المجتمع لخدماته، فإن كانت جليلة فهو المعزز المكرّم، أو كانت سافلة حقيرة فهو الذليل المُهان، لقد كان يومها السيف بعيدا منزها على أن يُقارن مع العصا، فلم أسمع وأنا الصغير أحدا تجرأ وتجاسر وتجاوز الحدود فقدّم المغني الراقص على المعلم الأستاذ، أو أعطى الاعتبار للاعب الكرة على حساب الطبيب أو المهندس أو الشرطي أو القاضي أو المحامي، أو “حاشاكم” لشيخة تهز الأرداف على قائد مرفوع الأكتاف، فتلك كبيرة وموبقة لم يكن المجتمع إبانها مع من كان هذا ديدن تصنيفه غفورا رحيما، لقد كان على سبيل التمثيل من سابع المستحيلات في وطني أن يتقدم في المدن الكبرى للانتخابات رجل أمِّي أو تاجر مخدرات أو مشبوه صفقات كل رصيده السمعاتي رقم ضخم في خزينة بنك من بنوك المملكة أمام سياسي محنك ذو فكر وصبابة ودماثة أخلاق، وحتى إن كانت ثمة فلتة فتقدم هذا الوضيع الضبع ضد ذلك الرفيع السبع، فإن الشعب كان قادرا في كل مرة حصلت فيها هذه الحيدة والفلتة على أن يلقن هذا المتسلِّل دروسا لن ينساها فيولي مدبرا ولا يعقب…
إنه وطن كان يقف فيه الخطيب على منبر رسول الله منبر الجمعة، أو يجلس فيه الواعظ التقي النقي على كرسي الوعظ تحسبه للوهلة الأولى صحابي من الرعيل الأول، يقف أو يجلس ليرشد ويوجه ويكبح ويشارك مريدي خطبته أو وعظه هموم الوطن والمدينة والحي والقبيلة، لقد كان تسديد البيان والتبليغ متروكا لأولئك الأشراف الذين إذا رآهم الرائي أو صادفهم في شارع ذكروه بالله واليوم الآخر، ولقد كانوا بحق خير خلف لخير سلف، ينتصرون للحق أيا كانت جهته ما دام مصدره واحدا ومشكاته وحيدة، ويصدعون به في وجه كل ظالم انتصارا لكل مظلوم صاحب حق، فلم يكن مُريد بيت الله يوم الجمعة ليخرج منه أو يعود لبيته كما خرج منه، لقد كنا نقرأ أثر تلك الخطب والمواعظ المباركة في أخلاق المعلمين والمهندسين والأطباء والآباء والأمهات والأدباء والتجار وكل الناس، لقد نشأنا ونحن الصغار بفضل أولئك الأكارم الأجاود الأفاضل العلماء الكبراء وسط جماعة تدين لله بالاستقامة، تمشي فيه القدوات العملية تنثر الخير وتنشر الفضيلة وتحاصر المنكر وتطارد الرذيلة في جفوة وغلظة وعداوة طافحة، وتضع الوضيع السافل المتسفل في كل نقيصة حيث ينتهي به التصنيف إلى دركته المناسبة.
 وهل كان بعضنا في حضرة أبيه يجرؤ فينبس ببنت شفة ذاكرا شيخة راقصة باسمها ولو على سبيل الهزل والمزاح، ناهيك على أن يخرج فينا من يصدع بخيانته وعمالته وتواطئه فيقول بملء الفم ومطلق الدناءة والصفاقة “كلنا إسرائيليون”، أو يتجاسر سبعة فتيه وثامنهم كلبهم الإعلامي الغربي فيضربون موعدا لهم ليفطروا علنا في نهار رمضان، لقد كان يومهم ذلك خميسا أسودا، ولحظة فارقة فاقعة السواد في علاقتهم مع مكونات مجتمعهم العاصي قبل الطائع والمنحرف قبل الملتزم…
إنني كما غيري وكما الكثير من جيلي وجيل الآباء ـ ورغم مظهر الترف والزينة والزخرف الذي وصلت إليه بلادي في عصرنا الحالي ـ من طرق سيّارة تربط الشمال بالجنوب والغرب بالشرق، وجسور معلقة ترتق خرق الوادي للعدوتين، وعمارات شاهقة باسقة وأبراج تناطح في علوّها السحاب، وملاعب وسواحل ومسابح وفنادق مصنفة، ووسائل نقل تضاهي سرعتها سرعة الضوء والصوت…
إننا رغم كل هذه الطفرة النوعية ذات النفحة المادية الصِّرفة لنَحِنُّ بل وتتوق أنفسنا وتشرئب أعناقنا لتُطل مستشرفة النظر بكل شوق وحنان ورِقة وحميمية إلى ذلك الزمن السالف وإلى ذلك الماضي المشرق من سيرة الوطن الشريفة الطيبة المباركة، ولطالما قلت واعتقدت في يقين أن مبنى الحضارة على أخلاق الإنسان لا على التطاول في العمران والتسابق في تكريس زينة البنيان، فلأن يركب أحدنا سيارة فارهة مصنفة فهذا من المدنية، وأن يفرمل عجلاتها عند حاجز مائي عكر وسخ حتى لا يتأذى المارة من الرش وكي لا تتسخ ملابسهم بالمتطاير من الوحل فهذا سلوك من الحضارة، لأنه يعكس معدن الراكب النفيس لا فراهة المركوب حتى ولو كان من نوع “المرسيديس”.
إننا نَحِنُّ إلى ذلك الوطن الذي سرقت أصالتَه منا الحداثةُ، وتلصّص براءتَه وطهرانيتَه اتباعُ سَنن اليهود والنصارى والشيوعيين والمجوس، إنه وطن كان يقام فيه العدل في محكمة تصدر فيها الأحكام المنصفة المتجردة للحق داخل خيمة من الكتان في سوق أسبوعي يعج بالبسطاء من الناس وبمركوبهم من الحيوان، فتسترجع فيه الحقوق لذويها دون لفٍّ ولا دوران ولا الحاجة إلى محاكم بنيناها من عاج وزجاج لا يبغيان، إنه وطن كان يستحيل أن تسمع في أرجائه أن أستاذا جامعيا يبيع الشواهد ويوزع الدرجات مقابل أتاوات ورشاوى بلغ سقف محصولها وتجاوز رصيدها المليار، إنه وطن كان يستحيل أن تسمع أو يتناهى إلى سمعك أن في إحدى جامعاته ذكورا أساتذة مبرزين يجودون بالنقط والميزات الحسنة مقابل الجنس والخنا واتخاذ الطالبات مسافحات أو متخذات أخدان، إنه وطن لم يكن ليجرؤ فيه الشاذ فيعلن بشذوذه وينشر عهره في واضحة النهار للعِيان، إنه وطن كنا نحتفي في شتائه برؤية طيف الألوان يتوسط قوس قزحه سماءنا ذات السيل المدرار، فلا نجد ذلك الحرج الذي جعل هذا الطيف رمزا لهذه الفئة الموبوءة فاقدة الحياء عديمة الإيمان، إنه وطن لم يكن ليقف فيه فرد وليس أمة من الكسور البشرية أمام جانح منحرف “سلكوط” لا صوت له ولا خلاق ليغني فيسب الحاضر وينبز الغائب بفحش كلام وسلاطة لسان، ومستقبح هندام وكآبة منظر، وعديم احترام، إنه وطن لم يكن ليقيم حفلات ولا لينصب منصات ولا لينظم مهرجانات وإخوة لنا في الدم والدين والعروبة يموتون بين قصف العدو الغريب وحصار الصنو القريب، تسمع لأمعائهم من شدة الجوع والسغب أنينا وصياحا وبكاء ونياحا، ينقله إلينا الأثير فنوشك أن نموت حزنا وكمدا ولا نكاد نطيل النظر ولا نقوى على إجالة البصر في تراجيديا هذا البغي والعدوان والاعتساف والطغيان.
إن ذلك الوطن للأسف الشديد نراه اليوم قد فقد ذلك التراص، وتلاشت لحمته الاجتماعية، وانفرط عقد أخلاقه الفاضلة، وانفسخت بنود عقده الفاصلة، ولا يغرنك ذلك التطاول والإبداع في فن العمارة والبنيان مادام ذلك حال الإنسان وسطه وضمنه فإنه صعود متوهم أو صعود نحو الهاوية، هاوية صار في جبِّها السياسي والوزير والأستاذ والطالب والطبيب والممرض والمهندس والبنّاء والتاجر والصانع والفلاح… يقولون بلسان يؤثر المصالح الشخصية الضيقة الأفق: “نحيا ويموت الوطن”.

محمد بوقنطار

محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97

الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (القادر, القدير, المقتدر) – فهد بن عبد العزيز الشويرخ

من أسماء الله الحسنى: القادر, القدير, المقتدر. وللسلف رحمهم الله أقوال في معاني هذه الاسماء, …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *