أصحاب الأخدود وأصحاب غزة .. دروس وعبر

ما نراه اليوم يحدث في غزة حرفياً، فلا ذنب لأهلها إلا أنهم يريدون حياةً بكرامة، وإسلامًا بلا مساومة، وحريةً بلا تبعية، فكان مصيرهم الحصار، والقصف، والتجويع، والقتل، والإبادة الجماعية، والخذلان من القريب والبعيد.

الحمد لله الذي قصّ القصص في كتابه تثبيتًا لقلوب المؤمنين، وتنبيهًا للغافلين، وعبرةً للمتدبرين، وتسليةً للمبتلين، وتربيةً للنفوس المؤمنة لتثبت على طريق الحق.
نحمده حمداً كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد عباد الله:

ما أحوجنا اليوم، ونحن نعيش زمن الفتن، ونرى في أرض غزة جراحًا نازفة، وأشلاء متناثرة، وجوعًا متعمّدًا، وإبادةً بالصوت والصورة، إلى أن نعود إلى نور القرآن، لنرى فيه ما يشبه واقعنا، وما يثبت قلوبنا، وما يوقظ وعينا، ويشعل فينا جذوة الإيمان والثبات.

إننا اليوم نقف مع قصةٍ من القصص القرآني العظيم، ذكرها الله في سورة تُتلى آناء الليل وأطراف النهار، إنها قصة أصحاب الأخدود، قومٌ مؤمنون حُفر لهم خندق عظيم، وأُوقدت فيه نار عظيمة، وقُيّدوا وأُلقوا فيه أحياء؛ لأنهم قالوا: ربنا الله.

قال الله تعالى:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ۝ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ۝ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ۝ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ۝ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ۝ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ۝ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ۝ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ۝ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ۝ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 1-11]

لقد بدأت السورة بأقسام عظيمة؛ فالسماء وما فيها من بروج شاهدة، واليوم الموعود لا محالة آتٍ، والشاهد والمشهود لا يغيبان عن عين الله، ثم يأتي الحكم: قتل أصحاب الأخدود، تلك النار المسعّرة، التي جلس الطغاة ينظرون إليها، ويشاهدون بأعينهم حرق الأجساد، وهم يضحكون.

في مشهد بشع لا يمكن لعقل أن يتخيله، ولا لقلبٍ أن يتحمّله، رجال ونساء يُساقون إلى النار فقط لأنهم آمنوا بالله، فأي جريمة هذه في عُرف الطغاة؟!

والله تعالى يُظهر لنا أن الظلم لم يكن لذنبٍ اقترفوه، ولا لجريمةٍ ارتكبوها، بل فقط لأنهم قالوا: ربنا الله. وهذه أعظم جريمة في عُرف الجبابرة الذين يرون أنفسهم آلهةً من دون الله، لا يقبلون أن يُرفع فوقهم شعار، ولا أن يُعبد سواهم، ولا أن يكون لأهل الإيمان صوتٌ أو موقف.

وهذا يا عباد الله، ما نراه اليوم يحدث في غزة حرفياً، فلا ذنب لأهلها إلا أنهم يريدون حياةً بكرامة، وإسلامًا بلا مساومة، وحريةً بلا تبعية، فكان مصيرهم الحصار، والقصف، والتجويع، والقتل، والإبادة الجماعية، والخذلان من القريب والبعيد.

إن مشهد الأخدود يعود في غزة، ولكن بنسخةٍ أشد قبحًا، نار الأخدود كانت موضعية، أما نار غزة فهي طائرات وصواريخ وقنابل محرّمة دوليًا، ومجازر تُبث على الهواء مباشرة، بأجساد الأطفال، ودموع الثكالى، وأنين الجوعى.

ومن مفاهيم هذه القصة العظيمة أن الله يرى كل شيء، ويطلع على كل جريمة، فمهما طال ليل الظلم، فإن الشهود حاضرون، والجزاء قادم.

وأن الفتنة في الدين أشد من القتل، فقد أراد أولئك الطغاة أن يفتنوا المؤمنين، فمن رجع عن دينه تركوه، ومن ثبت ألقوه، ومع ذلك اختار المؤمنون الحريق على أن يفرطوا في إيمانهم، فثبتوا، وارتقوا، وفازوا.

ونتعلم من القصة أن النصر لا يُقاس بالنتائج الدنيوية، بل بالثبات على الحق، وصدق التوجّه إلى الله، فكم من شهيدٍ قُتل، وهو في عداد المنتصرين، وكم من ظالم عاش سنواتٍ في ملكه ثم سُحق عند الموت، وقُهر في الآخرة.

ومن أعظم مشاهد القصة، أن الله يفتح باب التوبة حتى للطغاة، قال سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا}، أي أن الله يترك باب الرجوع مفتوحًا حتى لهؤلاء، فما بالنا نحن نغلقه على أنفسنا بالتسويف، والتكاسل، والمعاصي؟!

عباد الله: كم من ظالمٍ كان بين الناس، وكافرٍ آذى المؤمنين، وعصى الله، بقوا في الدنيا سنيناً، وفي النهاية ربما يموت الظالم ولم ينل من العذاب في الدنيا شيئًا. ولكن لا تنتهي الأمور على هذا، فأين إذاً قول الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[إبراهيم: 42].

لقد رحل أصحاب الأخدود، وماتوا بالحريق، وفي النهاية يصف الله نهايتهم بأنها الفوز الكبير، فيا سبحان الله! يُحرقون، ويُقتلون، وعن دينهم يفتنون، ثم يكونون هم الفائزين، إن النصر إذاً ليس انتصاراً آنيّاً في معركة، أو علواً في الأرض ورفعة، بل ربما قُتِلَ المرء وهو المنتصر!
إنه انتصار المبادئ، إنه الانتصار على الشيطان وعلى أعداء الإسلام بثباته على الإيمان، إنه الفوز بالجنة والنجاة من النار، إنه الفوز حين أمضى المرء دنياه وهو في مرضاة مولاه، فهؤلاء هم الفائزون.
 
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه 

الخطبة الثانية:
الحمدلله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:

أيها المؤمنون: إنها قصة ترينا كيف يكون لصغيرٍ أثرٌ كبير، فالغلام الذي ثبت على الحق، وقَبِل بالموت في سبيل نشر الإيمان، أصبح سببًا في إيمان أمة كاملة، بل وسُمّيت السورة لأجله، فليست العبرة بكثرة الأتباع، ولكن بصدق الثبات، وقوة العقيدة.

وفي الختام، تعلمنا هذه القصة أن القوة المادية مهما بلغت فإنها لا تصمد أمام الحق إذا استيقظ، وأن الظالم سيُحاسب، وأن الله يُمهل ولا يُهمل، وأن الجنة هي الغاية، والنار مآل الطغاة الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد.

فما أحوج المسلم إلى أن يثق بنصر الله، ويؤمن بوعد الله، وأن يعلم أن الله تعبَّده بأن يحيا في سبيل الله، وفي خدمة دين الله، وأما النتائج فَيَكِلُها إلى الله، وأن يعلم أن الله لن يَتِرَه من عمله شيئاً، ولئن لم يرَ نصرة الإسلام بعينيه، فلن يُحرم -بإذن الله- من أن يذيقه جزاء المؤمنين في جنته، وذلك هو الفوز الكبير.

 وليعلم الجميع أن كل انسانٍ سيموت فرداً وسيُحْشَر عبداً، وسيُحاسَب بعيداً عن منصبه، وستتجلى له كل أعماله، وسوف يسأل عن واجباته ومسؤولياته ومواقفه وأعماله  وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

اللهم يا جبار السماوات، ويا قهار الأرضين، انصر أهلنا في غزة، واشدد أزرهم، وداوِ جرحاهم، وارفع عنهم البلاء، وانصرهم على القوم الظالمين.

اللهم اجعل ما يحدث لهم كرامةً لا إهانة، ورحمةً لا نقمة، وفتحًا قريبًا من عندك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعلنا ممن يعتبر بآياتك، ويثبت على طريقك، ويموت على الحق، وينال رضاك، ويُبشّر بالفوز الكبير، كما بشّرتَ أصحاب الأخدود.

وصلّ اللهم وسلّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

أصحّ ما في الباب – طريق الإسلام

ومن أعاجيب هذا الزمان: ما رأيناه من تحقير البعض لجهود دعاةٍ للإسلام، انطلقوا في ميدان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *