ندبة الودّ – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

الصبر الجميل يحفظ الكرامة ويصلح الود، والكلمة الطيبة تداوي الجراح قبل أن تستفحل. والتماس العذر يوسع الصدر، فخلف القسوة ضعف، وخلف الجفاء انشغال. وإصلاح النية يسبق إصلاح القلوب، فمن أراد البركة في أهله، بدأ بنفسه

ما أشدّ قسوة الجراح التي تأتي من حيث ينبغي أن يكون السند، وما أقسى أن يكون الألم ممن كان يُرتجى منه الأمان، وأشدّ ما يفتّ في العضد ليس العداء الظاهر، ولا الخصومة الجهرية، وإنما ذلك الصدع الخفي الذي يتسلل إلى روابط القربى. 

ندبة الودّ تعني جرحٌ لا يندمل بسهولة، وألمٌ يأبى أن يرحل، إذ ليس كل ألمٍ يُنسى، وليس كل جرحٍ يُشفى، وما أقسى أن يجد المرء نفسه غريبًا في داره، متوجسًا في بيته، يتكئ على جدار المودة وهو آيلٌ للسقوط، فلا يجد إلا خواءً يمتد في أعماقه، ويقلب نظره فيمن حوله فلا يرى إلا بقايا ألفة تتداعى.

و ما أكثر ما يتكتم الإنسان على جراحه، لا لضعفٍ في فؤاده، ولكن لأن بعض الآلام عصيّةٌ على البيان، تتغلغل في  الروح حتى تصير جزءًا منها، فلا هو قادرٌ على البوح بها، ولا على محو أثرها، وما أشدّ ما يكون الابتلاء حين يأتي ممن يُفترض أن يكون سكنًا، ممن يجاورك في البيت، ويشاركك الاسم والنسب، فتجد بينك وبينهم حواجز من الجفاء، أو ركامًا من الكلمات القاسية، أو سدودًا من الصمت الذي هو أشد وقعًا من القول.

في زوايا البيوت، في أروقة العائلة، حيث كان ينبغي أن تكون السكينة مأوى، وربما يكون ذلك في شدة الوالد فوق ما يقتضيه المقام، فيتقوّس ظهر الأبناء تحت وطأة التوجيه العنيف، الذي لا يُدرك معه الموجّه أن الإصلاح لا يكون دائمًا بالشدّة، أو حين يُثقل الابن بطموحاته والده الوظيفية، وهو أعلم بنفسه، وربما يكون من الأم، حين تنطق بما تظنه عتابًا عابرًا، وهو في حقيقة الأمر طعنةٌ في خاصرة الشعور، وقد يكون من الأخ أو الأخت حين يغدو مزاحه تندّرًا جارحًا، يضعف معه الحبل الذي يشدّ القلوب، بل قد يكون البلاء في تلك الحروف الجارحة التي تُلقى على مسامعك وأنت لا تملك ردّها، أو في تلك النظرات التي تكسر هيبة نفسك دون أن يتنبه لها أصحابها، أو في ذلك الصمت الذي يتلبس ثوب التجاهل.

وقد يكون الابتلاء في الزوج، حين يغدو القوامة سيفًا مسلطًا، لا رأفة فيه ولا رحمة، أو حين يظن أن الطاعة تُشترى بالخوف، فيُغلق أبواب الأُنس، ويكسر قلبًا كان يظنه مُلكًا له، فإذا به أقرب إلى الوحشة منه إلى السكن. أو قد يكون البلاء في الزوجة، حين يكون السَّفه ديدنها، فلا ترضى ولا تشكر، ولا ترى من النعمة إلا ما ينقصها، فتُنهك زوجها بالطلبات والتذمر، وكأنما السكينة حقٌ لها لا يُنال منه نصيب.

وقد يكون من الدائرة الأوسع من الأسرة، حيث تتكاثر الكلمات المسمومة، والهمز واللمز، وليس في هذه الدنيا أوجع من أن يشعر المرء بالغربة وهو بين أهله، أن يستمع فلا يُفهم، أن يبوح فلا يُحترم، أن يمضي في الحياة وكأن عليه أن يكون صلبًا طوال الوقت، رغم أن روحه تهتز تحت وطأة التعب.

هذه من منازل الصابرين، حيث يمتحن الله عباده بصنوفٍ من الأذى، لا تُرى على الجسد، والمخرج من ذلك أن يردّ العبد شكواه إلى الله، فهو الذي يسمع أنين القلوب وإن لم يُنطق به، ويعلم خفايا الظلم وإن لم تُكشف، وأن ينظر بعين العذر، فكم من قسوةٍ كان وراءها جهل، فيقابل الإساءة بالحلم، ويحتمل الأذى بصبرٍ جميل، ولا يجعل ابتلاء القريب حاجزًا بينه وبين البر.

إذا ضاقت أواصر القرب وخنق الجفاء الروح، فهناك أبواب لا تُغلق. الصبر الجميل يحفظ الكرامة ويصلح الود، والكلمة الطيبة تداوي الجراح قبل أن تستفحل. والتماس العذر يوسع الصدر، فخلف القسوة ضعف، وخلف الجفاء انشغال. وإصلاح النية يسبق إصلاح القلوب، فمن أراد البركة في أهله، بدأ بنفسه. وأخيرًا، الدعاء، فهو الملاذ حين تعجز الحيلة، والباب الذي لا يُغلق، وإذا اشتد الأمرُ فليس أوسع من باب السماء، وليس شيءٌ أدفع للبلاء من دعوةٍ صادقةٍ في جوف الليل، تُرفع بها اليد، ويُبث بها الشكوى إلى الله أن يسخر فلان ويهديه ويكفيك شره. 

فيا لسعادة من كان له بيتٌ يستريح فيه، وأهلٌ تفيض أعينهم بالمودة، وكلماتٌ لا تُحسن إلا الرفق، وقلوبٌ لا تعرف إلا الصفح، فيحيا في كنف الأمان، ويأنس بقرب من يُدرك أن السكينة رزقٌ لا يعوّض، ونعم من يعيش في ظل هدوء نعيم الأسرة وطمأنينة القريب.

اللهم إنا نسألك صبرًا لا تنفد أيامه، وثباتًا لا تميل به الأعاصير، وقلبًا لا تحني قامته كثرة الجراح، وأُنسًا منك يعوضنا عن كل مُصاب، وسكينةً تطفئ في صدورنا كل ما أوقده الخلق فيها من نيران. 
••


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ – خالد سعد النجار

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *