غزة وخرائط الولاء – طريق الإسلام

غزة اليوم اختصارٌ لكلّ ابتلاءات الأمة: في الإيمان، والصدق، والولاء، والخذلان، والبصيرة

حين نتحدث عن غزة، فنحن لا نتحدث عن نوبةٍ عاطفية تُداهم القلب فتسوقه إلى تغريدة، أو تنهيدةٍ عابرة تكتفي بإثبات “الموقف” في عالم الشاشات، ثم تنصرف، بل نتحدث عن ذلك الألم العميق، المتجذّر، الذي ينشأ من يقينٍ إيماني بأن ما يجري في غزة ليس تفصيلاً في الواقع، بل محورًا في ميزان السماء، ومعيارًا دقيقًا لتمحيص القلوب، وتحديد المواقع.

غزة اليوم ليست تلك المدينة التي تُقصف، بل هي امتحانٌ معلن للضمائر، وتكليفٌ مفتوح للنفوس: من الذي سينهض؟ من الذي سيتجاهل؟ من الذي سيبكي لله، لا للناس؟ ومن الذي سيصوغ من مشاعره مشروعًا، لا منشورًا؟

غزة اليوم ليست حدثًا سياسيًا فحسب، وليست مجرد قضية تُتلى في المؤتمرات أو تُستعرض في المجالس، غزة اليوم اختصارٌ لكلّ ابتلاءات الأمة: في الإيمان، والصدق، والولاء، والخذلان، والبصيرة، وهي اختبارٌ يتنقّل بين الناس، لا يقتصر على من هم تحت القصف، بل يشمل من هم خارجه؛ يُمتحن فيه صدقهم، ومواقفهم، وحدود استجابتهم، ومدى حضور القضية في تصوراتهم، وأحاديثهم، وقراراتهم، وتربيتهم، وقلوبهم.

الحزن الشريفة هو الذي يورث الدعاء لا الدعاية، ويثمر البكاء في السجود لا التباكي على المنصّات، هذا الحزنٌ له جذورٌ تمتدّ في القلب المؤمن، وتثمر في العقل المتأمل، وتُترجم في الواقع بأثرٍ وبصيرة.

ومن ضمن تلك الحلول: 

إعادة ضبط بوصلة الولاء.
فالأمر لا يقتصر على مواجهة من رفع السلاح، بل يبدأ من وعيٍ يُدرك أن العدوّ هو كل من نازع الأمة في دينها، وخاصم أولياءها، ولبّس على أبنائها، وسوّق لخطابٍ يُهوِّن من شأن قضاياها الكبرى، والعداء العقدي لا يُعلَن دومًا من فوهات البنادق، بل كثيرًا ما يتسلّل من بين السطور، وفي زوايا الشاشة، وعلى ألسنة “المؤثرين”.

وثانيها: تثبيت اليقين في النصر.
نُربِّي النفوس على أن هذه الأمة قد تنكسر في موطن، لكنها لا تنهار، وقد تُبتلى، لكنها لا تفنى، وأنّ الاستضعاف مرحلةٌ في طريق النهوض، لا علامة على السقوط، فالتاريخ لم تصنعه يومًا نشرات الأخبار، بل كتبه أولئك الذين صدقوا الله فصدّقهم، ووهبوا أرواحهم لراية لا تُطوى.

وثالثها: بناء الوعي.
وعيٌ لا يتغذّى على العاطفة العاجلة، ولا تجرّه موجات التعاطف المؤقتة، بل يملك البصيرة التي تُدرك أبعاد المعركة، وعيٌ يعرف أن ركام غزة لا ينفصل عن اختياراتنا اليومية، ولا عن صمتنا حين يُعاد تشكيل القيم أمام أعيننا ونحن نبتسم!

ورابعها: تحويل الألم إلى مشروع.
فالمتألم الصادق لا يكتفي بالدمعة، بل يجعلها بداية لحركة، و إن كنت معلّمًا، فاجعل من حصتك منبر وعي. وإن كنت أبًا، فبين يديك أرواحٌ تتشكّل. وإن كنت كاتبًا، فالكلمة سهمٌ، إما أن تُصيب أو تُخيب. وإن لم تملك إلا الدعاء، فأخلص، وقل: يا ربّ، إنك تعلم ما لا نُبديه، فاجعل في هذا الرجاء سهم نصرٍ لا يُخطئ.

وربّ دمعة في ثلث الليل الأخير، أثقل في ميزان السماء من ألف تغريدة، ثم إن هذا الزمن الذي تتسابق فيه الخطابات، وتتشابه فيه المواقف، تبقى النية الصادقة، والمسؤولية التربوية، والعمل المنضبط، هي الثوابت التي لا ينبغي أن تغيب، فإن لم نستطع أن نُغيّر مجريات الأحداث، فبإمكاننا أن نُغيّر أنفسنا، وأن نُعيد تشكيل الجيل، وأن نكتب في هذه المصيبة سطورًا من الوفاء، تحفظها السماء وإن تجاهلها التاريخ.

لسنا نطلب أن تتعاطف معنا الدنيا، بل أن نتعاطف نحن مع ديننا كما ينبغي، أن نستعيد موقعنا في خارطة الولاء، أن نسأل أنفسنا: ما الذي قدّمه كلٌّ منا؟


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

كلمات فواصل في استخدام وسائل التواصل – ياسر بن راشد الدوسري

وسائل التواصُل الاجتماعيّ غدت في الغالب مسرحًا للحياة الزائفة، وموطنًا للمقارَنات الجائرة، فدب إلى البعض …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *