منذ حوالي ساعة
وكأنما أصبح العقل لا يطمئن لحكمه على الوقائع إلا إذا عرّجه على «حسّ المزاج الجمعي»، يبحث عن رأيه في آراء الآخرين قبل أن يستقر له رأي!
من الظواهر الرقمية التي تتسلل بخفوت إلى العقل المعاصر، حتى غدت اليوم مشهداً مألوفاً حد الابتذال: ظاهرة متابعة التعليقات، لا بوصفها هامشًا معرفيًا أو تجاوبًا نقديًا مع المادة المنشورة، بل بوصفها غاية بذاتها، تتضخم حتى تزاحم أصل الحدث المنشور بل وربما تطغى عليه، ولم يعُد الإنسان يقف عند حدود الخبر أو المادة المنشورة، بل تسرّبت إلى وجدانه عادةٌ جديدة غريبة: اللهاث المحموم وراء “التعليقات”، وإنك لتجد الرجل يسمع بخبرٍ أو يشاهد مقطعًا، فلا يُنهيه حتى يهوي مباشرة إلى أسفل الشاشة.. إلى حيث «التعليقات»! كأنّ الخبر مجرّد بوابة، وأنّ “ردود الأعيان والجمهور” هي مربط الفرس وذروة العناية!
وكأنما أصبح العقل لا يطمئن لحكمه على الوقائع إلا إذا عرّجه على «حسّ المزاج الجمعي»، يبحث عن رأيه في آراء الآخرين قبل أن يستقر له رأي! ويبلغ التشتت مبلغًا أعظم حينما ترى من يشاهد المقطع ويقرأ التعليقات في الوقت ذاته، بل ويتنقل بينهما تنقلًا محمومًا، حتى لا يكاد يتسق له فهم، ولا يثبت له تأمل، وهي حالة يمكن تسميتها بـ “تمزّق الانتباه الرقمي”، حيث ينشطر الوعي بين مقطع وتعليق، بين رأي ورد، فلا يستقر العقل على فكرة، ولا يُثمِر النظر حكمًا.
وهذه حالة نفسية غير مستقرة، وأشبه ما تكون بـ«اضطراب التلقي»، حيث لم يعد المرء متلقّيًا عاقلاً يزن الأمور بعقله ونظره، بل صار متلقّيًا قلقًا لا يطمئن إلا بـ«أصوات الآخرين» في خانة الردود، وقد رأيتُ بعض الشباب و أنا منهم، إذا وقع مقطعٌ أو منشورٌ سرعان ما ينصرف إلى «التعليقات» ليقرأها كلها! لا ليعرف آراء الناس فحسب، بل كأنما يبحث فيها عن «مزاج القوم» و«اتجاهات الموجة»، وربما يغيّر موقفه بناءً على ذلك!
وأعجبُ من ذلك حين يكون هذا التتبّع للتعليقات مصحوبًا بـ«تشوّفٍ يومي» وحرص متكرّر على رؤية كل رد جديد! وكأنها حالة من الإدمان الرقمي المبطّن، لكن بلبوسٍ فكري يوهم صاحبه أنه يواكب الرأي العام ويحلل الخطاب! والمشكلة لا تقف عند حد التشتت، بل تتجاوزه إلى الارتهان لرأي الجماعة، بحيث يغدو الإنسان تابعًا للذوق العام، متقلبًا بين تعليقات الناس، لا يحكم على حدثٍ أو قضية إلا بعد أن يرى “ماذا قال الناس؟”، فيذوب تميّزه وينطفئ نوره، ويضيع في أضواء الآخرين!
ومن تأمل في القرآن الكريم وجد كيف يكرّس الوحي قيمة البصيرة الفردية، ويدعو إلى النظر والتفكر دون تعلق برأي الجماعة: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا} [سبأ: 46]. وقد روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال» (رواه البخاري (1407) ومسلم (593). ومتابعة شهوة التعليقات هي امتداد لكراهية الله في ” القيل و القال” وقال عليٌّ رضي الله عنه: (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع)
(المستطرف في كل فن مستظرف، للأبشيهي ٨٣/١).
ولئن كان الطمع في الأرزاق مذمومًا، فإن الطمع في انطباعات الآخرين، والحرص على متابعة ردودهم، لا يقلّ فسادًا في أثره على العقل والبصيرة، والزهد الحقيقي ليس فقط زهدًا في الدنيا، بل زهد في «رأي الناس» و«صدى الصوت»، فإنّ المراقبة الدائمة لتعليقاتهم تقتل فيك صفاء النظرة، وتضعك في قيدٍ خفيّ من التبعية والتوجّس والانفعال.
ونحن بحاجة إلى استعادة تلك اللحظة المعرفية الصافية، التي يقف فيها الإنسان مع الفكرة ذاتها، يقلبها في ذهنه، يتأملها، بعيدًا عن دوشة التعليقات، وصخب المتابعين.
Source link