منذ حوالي ساعة
إن الدعوة لإعادة النظر في التربية الحديثة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة ملحة لإعادة إنتاج جيل يعرف معنى المسؤولية، ويتخذ القرار بنفسه، ويملك الإرادة الكافية لصناعة حياته.
في ملامح التربية الحديثة، يلوح خطر كبير يكاد يكون مستترًا لكنه ينعكس بوضوح في سلوك الأبناء: الاتكالية المفرطة، والانفصال شبه التام عن روح المسؤولية. لم تعد التربية – في كثير من البيوت – تربية تصنع الرجال أو تهيئ الأبناء لمواجهة الحياة، بل أصبحت عملية تكييف مع الراحة، وتسليم مطلق للأب في الإنفاق، دون مقابل من تحمل الأعباء أو حتى التفكير في الاستقلال الذاتي.
لقد أصبح الأب في هذه المنظومة التربوية الحديثة هو المصدر الدائم للنفقة، ولا يتصور الابن أن ينقطع هذا المصدر. فإن توقف الأب لأي سبب عن القيام بهذا الدور، لا يُلام الابن على تقاعسه، بل يُطلب من الأب أن يبحث له عن بديل… وغالبًا ما يكون هذا البديل هو الوظيفة.
الوظيفة كبديل أبوي:
الوظيفة اليوم لم تعد فقط مصدر رزق، بل امتداد لنمط الأبوة في التربية الحديثة. فهي تكرر ذات النمط: مصروف شهري مقابل مهام محددة، ورقابة عليا من المدير الذي يشبه في كثير من خصائصه الأب. ولهذا يُربى الابن منذ صغره على أن يتجه نحو الشهادات والدراسة لا حبًا في العلم، بل من أجل نيل رضا “الأب الجديد” وهو المدير. وتُصبح كل طموحات الحياة مختزلة في نيل وظيفة مرموقة تُغنيه عن التفكير في المغامرة أو المبادرة.
رفض المغامرة… ووأد الريادة:
في هذه المنظومة التربوية لا مكان للتجارة، ولا مساحة لريادة الأعمال، ولا حتى تشجيع على التجربة. فالمغامرة مخاطرة، والتجارة غير مضمونة، والعمل الحر مليء بالمطبات. كل هذه الرسائل تتكرر منذ الطفولة، حتى يتشربها الشاب في شبابه، ويصبح عاجزًا عن المبادرة، خائفًا من أي قرار يتطلب مسؤولية.
شباب يُفاجَؤون بالواقع:
وما أن يدخل هذا الشاب مرحلة النضج، حتى يُطلب منه فجأة أن يكون مسؤولًا! يُطلب منه أن يتزوج، أن يُنفق، أن يتحمل أعباء أسرة، أن يواجه الحياة… لكنه لا يعرف كيف. فطوال حياته لم يُطالَب بشيء، ولا اعتاد اتخاذ قرار مصيري بنفسه. لذلك نرى كثيرًا من الشباب اليوم يهربون من الزواج، لا لأنهم لا يرغبون فيه، بل لأنهم لا يعرفون كيف يتخذون قرارًا كبيرًا كهذا. يشعر أن الأمر أكبر منه، وأن المسؤولية “ثقيلة”، ويُصرّح بذلك وكأنه طفل يقول: “الزواج مسؤولية!”، فتشعر وكأنك تخاطب طفلًا بلحية وشارب.
غياب المسؤولية… فقدان القيمة:
هذا النمط من التربية يخرج لنا جيلًا بلا قيمة حقيقية في الحياة. فالشاب الذي لا يتحمل مسؤولية نفسه، ولا يشارك في بناء أسرته أو مجتمعه، يصبح مجرد رقم زائد… عالة على والديه في صغره، وعلى الوظيفة في كبره، وعلى الحياة كلها بعد ذلك. لذلك نقول بوضوح: الزواج يحتاج رجالًا. ومن لم يكن رجلًا مسؤولًا، لم يحن وقت حديثه عن الزواج بعد، الرجولة ليست بالشكل ولا بالسن، بل بتحمل الأمانة، واتخاذ القرار، والمبادرة الفاعلة في الحياة.
خاتمة:
إن الدعوة لإعادة النظر في التربية الحديثة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة ملحة لإعادة إنتاج جيل يعرف معنى المسؤولية، ويتخذ القرار بنفسه، ويملك الإرادة الكافية لصناعة حياته. وهي دعوة تحتاج إلى مجهود وصبر، لكنها تستحق كل ذلك وأكثر. فالمجتمعات لا تبنى إلا برجال حقيقيين، والتربية هي المهد الأول الذي يُصنع فيه هؤلاء الرجال.
_______________________________________
الكاتب: د. محمد موسى الأمين
Source link