منذ حوالي ساعة
يعتقد كثير من الناس أن عذاب القبر لا يصيب إلا من ارتكب الكبائر الظاهرة كقتل النفس أو ترك الصلاة، وأن الجنة لا تُنال إلا بكثرة الركعات والصيام الطويل وقيام الليل.
معاذ كوزرو
يعتقد كثير من الناس أن عذاب القبر لا يصيب إلا من ارتكب الكبائر الظاهرة كقتل النفس أو ترك الصلاة، وأن الجنة لا تُنال إلا بكثرة الركعات والصيام الطويل وقيام الليل
. لكن حين نتأمل في كلام الله تعالى، وسنّة نبيه ﷺ، وسير السلف الصالح، يتضح لنا أن الميزان عند الله أعمق من ذلك بكثير.
فكم من عبدٍ ظنّ ذنبه هينًا فعُذّب عليه، وكم من آخر سبقه إلى الجنة بعملٍ صغير حفّته نية عظيمة وخشية صادقة.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ مرّ بقبرين فقال: «“إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة”» .
هذه الرواية تضعنا أمام حقيقة مهمة، أن العذاب في القبر قد يكون على ذنب يراه الناس بسيطًا، لكنه عند الله عظيم، لأنه يدل على قلة ورع، أو استهانة بالشريعة، أو فساد خفيّ في القلب. فعدم الاستبراء من البول يدل على استخفاف بأوامر الطهارة، والنميمة تدل على طبعٍ خبيث يسعى في الإفساد بين الناس.
وبالمقابل، نجد أن الجنة ليست مرتبطة فقط بكثرة الأفعال الظاهرة، بل بالنية الصادقة، وحال القلب، والتقوى الباطنة. فقد قال بكر المزني : “ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره”.
فمكانة الصدّيق رضي الله عنه لم تكن بسبب طول القيام أو كثرة الصيام، بل بسبب صدق الإيمان، وصفاء النية، وعمق الخشية، وسرعة الامتثال لله ورسوله. وهذا ما جعله يتفوّق على غيره ممن قد يكثر العمل الجسدي، لكنه يفتقر إلى الإخلاص.
وقد قيل عن الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه ما كان كثير الصلاة ولا الصيام، ولكن كان في وجهه نور الخوف من الله، وهذه شهادة تعكس المعنى نفسه، أن العبادة ليست بكثرتها فقط، بل بحقيقتها. فكم من مصلٍّ لا يخشع، وكم من صائم يترك الطعام لكنه لا يترك الغيبة، بينما نجد آخر يصلي ركعات أقل، لكنه يصلي بقلبٍ وجل، ونفس خاشعة، ويدٍ لا تظلم أحدًا، ولسانٍ لا يؤذي خلقًا.
في القرآن الكريم، آيات كثيرة تؤكد هذا المعنى. يقول الله تعالى في سورة النور: “وتحسبونه هيِّنًا وهو عند الله عظيم”، في وصف ذنبٍ ظنه الناس بسيطًا، لكنه عند الله عظيم الشأن. ويقول سبحانه في سورة الحجرات: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ولم يقل أكثرُكم صلاة أو صيامًا. فالتقوى هي المعيار الحقيقي، وهي التي تجعل العمل القليل عظيمًا، وتُفقد العمل الكبير أثره إن خلا من الإخلاص. كما يقول تعالى في وصف عباده الصالحين: “والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون”، أي أنهم يخافون ألا يُقبل عملهم، رغم إحسانهم في الظاهر.
هذا المعنى يجليه الحديث المشهور: «“إنما الأعمال بالنيات”» ، فالأعمال لا تُوزن فقط بمقدارها الظاهري، بل بما في القلوب من قصد وصدق. فقد يتصدق أحدهم بدرهم واحد فيبلغ به رضوان الله، بينما يتصدق آخر بألف، ولا يُقبل منه لأنه أراد السمعة.
ويحذّر العلماء من أن الذنب الصغير قد يتحوّل إلى كبير إذا أصر عليه العبد، أو فعله باستخفاف، أو لم يُبالِ بحدود الله فيه، أو إذا كان مستمرًا دون توبة. لهذا قال بعض السلف: “لا تنظر إلى صِغَر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت”.
إن خلاصنا، إذًا، لا يكون بمجرد حساب عدد الصلوات أو الأيام التي صمناها، بل بصدق التقوى في القلب، والإخلاص في العمل، وتعظيم شعائر الله، والخوف من الوقوع في ما لا يُرضيه. فالجنة تُنال بقلبٍ سليم، والنار يُتقى شرها بخشية خالصة، وليس فقط بكثرة الأعمال المجردة.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يُكثر أن يقول «: “اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات”» (متفق عليه)، ليدلنا أن طريق النجاة يبدأ بالخوف من الله، ثم العمل الصالح، ثم التوبة الدائمة.
فليكن خوفنا من الله صادقًا، ورجاؤنا فيه دائمًا، ولا نستصغر ذنبًا، ولا نتكئ على عمل، بل نسأله القبول والهداية والثبات.
Source link