بالقرآن نحيا ………سورة المجادلة :
سورة مدنية
مناسبتها لما قبلها :
قال الإمام السيوطي: «لما كان في مطلع الحديد ذكر صفاته الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، وقال: {﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٤﴾ } [الحديد:4]، افتتح هذه – أي: المجادلة – بذِكْر أنه سمع قول المجادلة، التي شكت إليه – صلى الله عليه وسلم –
يقول الألوسى : أن سورة الحديد خُتمت بذكر فضل الله على عباده في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فناسبت ما بدأت فيه سورة المجادلة من بيان الفضل الإلهي، ومن هذا الفضل إجابة دعوة المرأة وتفريج كربها .
والسورة تنقسم إلى قسمين القسم الأول يبين معية الله لعباده من خلال قصة المرأة التى جاءت تشتكى إلى رسول الله أمرها ليستجيب لدعائها وتنزل آيات تنظيم العلاقات الأسرية إذا حدث فيها شقاق وتقرر حكم الشرع فى قضية الظهار ثم يعلم المسلمين بعض الآداب فيما بينهم مثل آداب التناجى والتحذير من التشبه باليهود لأن ذلك يوغر الصدور ويشحن المسلم تجاه أخيه المسلم ثم يبين آداب المجالس وأهمية المسامحة بين الناس كما بين آداب مناجاة رسول الله ثم ينتقل إلى القسم الثانى من السورة وهو التحذير من موالاة اليهود وأعداء الإسلام وبيان صفات المنافقين وتميز الناس إلى حزبين حزب الله وحزب الشيطان ويقرر سنة من سنن النصر وهى أن الغلبة لدين الله ولشريعته
قال تعالى :
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
ابتدأت السورة بذكر قصة المجادلة وهى خولة بنت ثعلبه وكانت قد ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت أى قال لها أنت محرمة على كحرمة أمى وفيه تحريم معاشرتها وكان الظهار يعد طلاقاً فى الجاهلية
فعن ابن عبد الله بن سلام ، عن خويلة بنت ثعلبة قالت : «في – والله – وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة ” المجادلة ” قالت : كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، قالت : فدخل علي يوما فراجعته بشيء ، فغضب فقال : أنت علي كظهر أمي . قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي . قالت : قلت : كلا والذي نفس خويلة بيده ، لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه . قالت : فواثبني وامتنعت منه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني ، قالت : ثم خرجت إلى بعض جاراتي ، فاستعرت منها ثيابا ، ثم خرجت حتى جئت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما [ ص: 36 ] ألقى من سوء خلقه . قالت : فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ” يا خويلة ، ابن عمك شيخ كبير ، فاتقي الله فيه ” . قالت : فوالله ما برحت حتى نزل في القرآن ، فتغشى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما كان يتغشاه ، ثم سري عنه ، فقال لي : ” يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك ” . ثم قرأ علي : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) إلى قوله : ( وللكافرين عذاب أليم ) قالت : فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” مريه فليعتق رقبة ” . قالت : فقلت يا رسول الله ، ما عنده ما يعتق . قال : ” فليصم شهرين متتابعين ” . قالت : فقلت : والله إنه شيخ كبير ، ما به من صيام . قال : ” فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر ” . قالت : فقلت : يا رسول الله ، ما ذاك عنده . قالت : فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” فإنا سنعينه بعرق من تمر ” . قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا سأعينه بعرق آخر ، قال : ” فقد أصبت وأحسنت ، فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرا» ”
قال الزمخشرى: التعبير ب قد بعد الفعل الماضى تفيد التحقيق أى تحقيق إجابة دعائها وإلا فسماع الخالق لمخلقواته مؤكد ومحقق
والتعبير بقوله “فى زوجها ” دليل على أنها مازلت زوجته لم تحرم عليه حرمة مؤبدة وأن هناك مخرج من هذه الأزمة
والتعبير” بتجادلك” دليل على احترام الإسلام لحق الإنسان ذكراً كان أو أنثى فى الحوار والمجادلة ليتبين له الحق
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ: إن الله وسع سمعه كل شىء بصير بأفعال عباده
الأية تجعل المسلم يستشعر معية الله له فى كل وقت فلا يحزن فهو يسمع شكوه ويجيب دعائه فليثق فيه وليطمئن له فمعه الكافى و من جانب آخر الآية تدعو إلى مراقبة الله فى السر والعلانية
فعن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – تكلمه وأنا في ناحية البيت ، ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله ، عز وجل : {( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها )} إلى آخر الآية
كما أنها تدعو كل أمرأة تشعر أن المجتمع قد ظلمها لا تحزن فإن الله يسمع شكواها ويفرج كربها وهو أرحم بها من أهلها وذويها و ليعلم المجتمع المسلم أن التعامل مع المرأة من الدين وليس الدين صلاة وصياما وحجا فقط وأن خيرية المسلم فى حسن تعامله مع أهله كما علمنا رسول إذ يقول ” « خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي
ثم ذم الله عزوجل الذين يظاهرون من نسائهم إذ يقول تعالى :”
{الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ، ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ (2) وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ” }
يقول ابن كثير :
أصل الظهار مشتق من الظهر ، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا تظاهر أحد من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي ، ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياسا على الظهر ، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقا ، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ، ولم يجعله طلاقا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم
وبينن أن من يقول ذلك فهو قول باطلا ينكره العقل والشرع لأن الزوجة فى الحقيقة ليست أما لزوجها لذلك من البهتان أن نسويها بالأم وعلى الذين يقولون ذلك أن يعودوا فيه وذلك بأن جعل له كفارة ليحظى العبد بعفو الله ومغفرته فهو واسع العفو والمغفرة لعباده على ما يقع منهم إذا تابوا وأنابوا إليه
ثم يبين كفارة الظهار
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) }
فمن قال لامراته أنت على كظهر أمى ثم يعود فى قوله ويرغب فى اعادة الحياة الزوجية بينهما
اختلف العلماء فى معنى العود : رأى الحنفية والمالكية على المشهور أن العود: هو العزم على الوطء أو الجماع. وذهب الشافعي إلى أن العود: أن يمسك المظاهر منها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.
وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه، فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة
فعليه كفارة عتق رقبة عبد أو أمة من قبل معاشرتها والرقبة هنا ليست مشروط أن تكون مؤمنة
فمن لم يجد رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين
من قبل أن يتماسا يقول القرطبى : فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير
وإن أفطر يوما لغير عذر فقد انقطع التتابع فعليه أن يعيد الصيام من جديد على رأى الجمهور فمن لم يستطع الصيام لكبر سن أو مرض لا يبرأ منه فعليه إطعام ستين مسكينا وفى كل الأحوال لا يستطيع العودة للحياة الزوجية الطبيعية قبل أن يكفر عن ذنبه
وتنتهى الآية ” إن الله بما تعملون خبير” بنواياكم وما تكنه صدوركم هل حقا تريدون التوبة والرجوع إلى الله ؟ هل أنتم وقافون عند حدود الله
وربط تنفيذ أمر الله بالإيمان به فمن راقب الله فى كلماته وسلم لأمر ه فهو المؤمن حقا وقد يكون ذلك ردعا للرجال التى لا تستطيع أن تمتنع عن العلاقة الزوجية لفترة طويلة وحفظا لكرامة المرأة فهى ليست لعبة فى يد الرجل يحرمها ويحللها لنفسه وقتما شاء وتختم الآيات
تلك حدود الله إنها أحكام من عند الله واجبة التنفيذ وليحذر من الاستخفاف بآيات الله حتى لا يعرض نفسه للعذاب الأليم
دروس من القصة : بينت القصة مدى حرص المرأة المسلمة على أسرتها فهى تبذل الكثير من أجل استمرار حياتها الأسرية حتى وإن كان الطرف الآخر على غير القدرالكافى من تحمل المسئولية منذ البداية بقدومها إلى رسول الله تسأل عن دينها وفى النهاية بمساعدتها لزوجها فى الكفارة حتى يتحلل من هذه الكلمة فتعطينا درسا فى كيفية إدارة الأزمات داخل الأسرة
المرأة تسأل عن رأى الشرع فى قضيتها وهكذا المرأة المسلمة يجب أن تتعلم الحلال والحرام وتأبى أن تعيش فى الحرام فإذا أتى لها زوجها بمال تسأله عن مصدره ولا تستهين بالحرام فقد يؤدى الى خراب ولا يكون لسان حالها مثل كثير من النساء لا تدخلوا الدين فى كل شىء أين المرأة التى تدرك أن مرجعيتها لكتاب الله وسنة رسوله تحكمهم فى حياتها ولا تحكم الأهواء وكلام الناس
ولما بينت الآيات حال المؤمنين الوقافين عند حدود الله ذكر على العكس حال المعاندين المخالفين لشرع الله
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }
وأصل المحاداة أن تكون فى حد والآخر فى حد
يقول ابن عطية : كبت الرجل إذا بقى خزيان يبصر ما يكره ولا يقدر على دفعه
ما عقابه تآمرهم على المسلمين ومخالفة لحدود الله ؟ أنهم أهينوا وأخزوا ، كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم
( وقد أنزلنا آيات بينات ) أي : واضحات لا يخالفها ولا يعاندها إلا كافر فاجر مكابر ……ابن كثير
وفى ذلك تحذير لكل من خالف شرع الله وأعلن العداوة لدينه
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
ثم يذكرهم بيوم يقفون فيه بين يدى المولى عزوجل يوم القيامة يحاسبون على أعمالهم يذكرهم بما ارتكبوه من آثام وجرائم حفظها عليهم وجمعت فى صحائف أعمالهم ربما لم يتذكروها أولم يعتقدوا فى يوم الحساب يوم تكون السريرة علانية وتختم الآية إذا كان غاب عنهم هذا اليوم فإن الله لا يغيب عنه شيئا ولا يخفى عليه خافية
كما أنه يدعو لخشية الله وأن تقدر الله حق قدره ولا نستهين بالذنوب والمعاصى فى حق الله فالآية تدعو المؤمن للاطمئنان برعاية الله له وعنايته به وتجعل الكافر يحذر من شهود الله له وحضوره فى كل وقت
وتستمر الآيات تبين مدى إحاطة علم الله بخلقه واطلاعه عليهم فهو معهم أينما كانوا يسمع كلامهم ويرى مكانهم
قال تعالى {:”أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ (7}
فما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو مطلع عليهم يعلم السر واخفى ” يقول بن كثير : ورسله مع ذلك تكتب ما ينتاجون به من علم الله به وسمعه له
{﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب ﴾} [ التوبة : ٧٨ ]، وقال تعالى : {﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾} [ الزخرف : ٨٠
يقول الشوكانى : وتخصيص العددين ثلاثة وخمسة بالذكر، لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة ؛ أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع، وخمسة في موضع. قال الفراء : العدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قلّ أو كثر يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافية
والآيات تبين معية الله للعبد وعلمه بأعمال العباد أكثر منهم أنفسهم وهذا يدعو إلى ضرورة مراقبة الله فى كل شىء فهو شهيد على أعمالنا وهذا ما أشارت إليه السورة منذ البداية فى قصة المجادلة أنه سمع قول المرأة واستغاثتها بالله ومناجاتها له فقد وسع سمعه كل شىء
هذا عن النجوى بصفة عامة بين المسلمين فماذا عن اليهود ؟وما موقفهم من المؤمنين ؟
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
كان بينهم وبين المؤمن مهادنة وكان إذا مر بهم الرجل من أصحاب رسول الله كانوا يتناجون فى ما بينهم ويتغامزون بأعينهم فيظن المؤمن أنهم يذكرونه بشر أو أنهم يريدون قتله فكان يترك لهم الطريق وكانوا يتواصون بينهم بمعصية الرسول ومخالفته فنهاهم النبى صلى اللله عليه وسلم عن هذا التناجى ولكنهم عادوا لما نهوا عنه وكانوا يحيون النبى بما لا يليق به
عن عائشة قالت : « دخل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يهود فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم . فقالت عائشة : وعليكم السام واللعنة قالت : فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” يا عائشة ، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ” . قلت : ألا تسمعهم يقولون : السام عليك ؟ فقال رسول الله : ” أوما سمعت أقول : وعليكم ؟ ” . فأنزل الله : ( وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله )»
كل ذلك وكانوا يسرون فى أنفسهم ان لو كان هذا نبيا حقا لعجل الله لنا العقاب فى الدنيا فتخرج الآيات ما تكن صدورهم فى قرآن يتلى بأن هناك عذابا ينتظرهم فى الآخرة جهنم وبئس المصير
ثم ينهى المؤمنين عن أن يفعلوا كما فعل اليهود وهو التحدث سرا بالإثم ومعصية الرسول وإن كان ولابد فاليتناجوا بما فيه خير للمسلمين
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
ويذكرهم بتقوى الله لأنها الدافع لفعل الخير واجتناب المعاصى وهى التى تورث مراقبة الله ومخافته فإليه يحشرون فيحاسبهم على أعمالهم ثم ينفرهم من التناجى سرا لأنها من إيعاذ الشيطان ليوغر الصدور ويخلق جو من عدم الثقة بين المسلمين بعضهم البعض ويبث فى قلوبهم الحزن والتوجس نحو أخيه المسلم وهو ما لا يرضاه الله عزوجل للمسلمين
{{إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ }
لكن يطمئن المؤمن أن الشيطان لن ينال ما يريده من المؤمن إذا توكلوا على ربهم وفوضوا أمرهم لله وكأنه يضع روشتة علاج لوساوس الشيطان والتصدى لمكره بالمسلمين ومحاولة الإيقاع بهم فالضار والنافع هو الله وهو الذى سلط الشيطان على المسلمين بالوساوس والهموم ابتلاءا لهم وامتحانا لهم وتقديم الجار على المجرور “وعلى الله” ليبين أن المؤمن الحق لا يتوكل ألا على الله وأهمية ربط التوكل بالإيمان بالله
وإنه لأدب رفيع علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال :” عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : «قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : ” إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه»
ثم تنتقل الآيات بالمؤمنين لتعلمهم آدبا جديدا للتعامل مع بعضهم البعض فبعد أن نهاهم عن التحدث سرا اثنين دون الآخر دعاهم للتفسح فى المجالس وأن يستقبل الجالس أخيه بسماحة وود ولا يضن بمجلسه عن أخيه
{{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} }
قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض
كما بين لنا رسول الله من آداب المجالس عن ابن عمر ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا “
فقد كانوا يضنون بمجالس القريبة من رسول الله فحث على التوسعه وبين أن الجزاء من جنس العمل فيفتح لهم أبواب الخير والراحة فى الدنيا والآخرة
أوى فآواه الله
وفى الحديث بينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالس ، إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها ، وأما الآخر فجلس وراء الناس ، وأدبر الثالث ذاهبا . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” ألا أنبئكم بخبر الثلاثة ، أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه
وكان الغرض من ذلك إيجاد الفسحة فى النفس قبل أن تكون فى المكان فإن اتسع قلب المسلم لأخيه استقبله بالحب وأفسح له بسماحة نفس أفسح له طاعة لله عن رضى وارتياح
وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ النشوز هو الارتفا ع والعلو فهى دعوة إذا قيل لهم انهضوا من أماكنكم للتوسعة للقادم استجبوا للأمر و قد يكون المقصود بها أمراً عاماً للمسلمين إذا دعيتم للنهوض للصلاة أو الجهاد أو فعل الخيرات فأجيبوا الداعى ثم بين أن ذلك ليس انتقاصا من شأنهم إنما هى رفعه لهم فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من تواضع لله رفعه ” وخص الذين أوتوا العلم أهل العلم بالذكر هذا دليل على فضل العلم والعلماء وأنهم ألين قلوباً وأكثر تواضعا لله وللحق من غيرهم
يقول صاحب الظلال : فالآية تعلمهم : أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر ، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع ؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات
وتختم الآية إن الله عليم بمكنونات النفوس وهذا يدل على أن هذه الآداب كلها مرتبطة بمدى سماحة نفسه وتقبلها للآخر ومراعاة مشاعره
وكما بينت الآيات فيما سبق آداب التناجى بين المسلمين بعضهم بعضا فتأتى الآيات لتبين آداب مناجاة رسول الله
{” أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” }
عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: أَأَشْفَقْتُمْ الآية.
فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى إذا أراد أحد من الصحابة التحدث إلى النبى والإسرار إليه بشىء فعليه أن يقدم صدقة تطهيراً لنفسه وتزكية لها تؤهله لأن يصلح لهذا المقام
وقد عمل بهذه الآية الإمام علي – كرم الله وجهه – فكان معه – كما روي عنه – دينار فصرفه دراهم
ولكن الأمر شق على المسلمين كلما أراداوا أن يتحدثوا إليه بمفردهم قدموا صدقة فعفى عنهم وغفر لهم
وهذا الأمر من الله تعظيم لشأن النبى فالتعامل معه ليس كالتعامل مع أحد عادى كما أن فى الصدقة نفعا للفقراء من لم يجد ما يتصدق به فإن الله غفور رحيم
كما أنه أيضا تمحيص المخلص من غيره وتبين من يسأله ليستفيد فعلا ويعرف أكثر فى دينه من غيره أو أنه يضيع وقت النبى صلى الله عليه ولا يقدر المهام الملقاة عليه صلى الله عليه وسلم
فإن خفتم من وجوب ذلك عليكم فيشق عليكم ولا تستطيعون فقد رخص لكم فى ترك الصدقة فقد عفا عنكم فاثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة رسول الله فيما أمركم به وما نهاكم عنه
{أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } والله خبير بنواياكم
تأتى الآية لتنسخ وجوب إخراج الصدقة عند مناجاة رسول الله وتفتح الباب للمناجاة بدون صدقة
ثم تنتقل الآيات للحديث عن أحوال المنافقين فى موالاتهم لليهود فقد كانوا يتآمرون مع أعداء الإسلام الذين غضب الله عليهم على حساب المؤمنين فتبين الآيات أن هؤلاء المنافقين لا هم من المؤمنين ولا هم من اليهود حتى إذا انكشفت مؤامرتهم للرسول وللمؤمين يلجأون إلى الحلف للرسول وللمؤمنين وهم يعلمون أنهم كاذبون فى ذلك لينكروا ما نسب إليهم من تهم
والتعبير بيحلفون المضارع دليل على الإستمرارية فى الحلف الكاذب وموالاتهم لليهود
ولذلك استحقوا العذاب الشديد نتيجة أعمالهم السيئة إذ يقول تعالى :”
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ” }
واتخذوا من الأيمان الكاذبة وقاية لدمائهم من القتل فإنهم ما دخلوا الإسلام إلا لحماية أموالهم ومصالحهم وجعلوا عملهم أنهم يشككون المسلمين بدينهم بإثارة الشبهات وتفير الناس من الدين فيغتر العامة الناس بهم وبذلك يكونا قد صدوا الناس عن سبيل الله وما أكثرهم فى كل زمان ثم يؤكد على استحقاقهم العذاب الذل والمهانة فى الآخرة وإذا كان المنافقون يركنون إلى كثرة أموالهم وأولادهم فبين الله لهم أنها لن تنفعهم يوم القيامة ولن تحميهم من العذاب يوم القيامة فقد استحقوا ملازمة العذاب والخلود فى الناروهذا إنذار لكل من اغتر بالدنيا وبما لديهم من الأموال والأولاد فكل ذلك يذهب هباءا وليس له قيمة يوم القيامة
ثم يصور المشهد يوم القيامة وإذا بالمنافقين يحضرون بين يدى الله فيحلفون على الكذب كما كانوا يحلفون للمؤمنين فى الدنيا ويظنون أنه يروج عند الله
يقول الشوكانى : ” وهذا من شدة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم، فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة، فكيف يجترئون على الكذب فى هذا الموقف ويحسبون أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعاً، أو يدفع ضررا أنهم هم القوم المتهالكون على الكذب البالغون فيه إلى حد لم يبلغ غيرهم إليه بإقدامهم عليه وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرحمن”
ثم يبين علة ذلك لماذا المنافقون على ما هم عليهم ولماذا يستحقون العذاب ؟ يقول الله تعالى
{ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ (19 }
العلة هى استحواز الشيطان عليهم وسيطرته على قلوبهم وعقولهم فأنساهم ذكر الله والنسيان هنا بمعنى الغفلة وترك العمل
أنسهوهم أن يتذكروا الله فى كل أعمالهم فيخلصوا له القول والعمل أنسوهم أن يذكروا الله عند الحرام فيرجعوا عنه ولما لا فهى نفوس خربة وقلوب نسيت الله ففسد وأصبحت مرتع للشياطين إنهم جنود الشيطان يقفون تحت لواءه وينفذون ما يريد ولا ينال هؤلاء فى النهاية إلا الخسارة فى الدنيا بإتباعهم الشيطان وفى الآخرة بالعذاب الشديد
يقول القرطبى فى معنى الاستحواذ :
والتعبير بأولئك إشارة للبعيد لدليل على بعدهم عن الله فقد باعوا الآخرة بالدنيا فخسروا السعادة الحقيقية فى الآخرة
ثم يبين العلة فى كونهم حزب الشيطان
إذ يقول تعالى :” إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ”
أي إن الكفار المعاندين المخالفين أوامر الله ونواهيه، والذين يجانبون الحق ويعادون الإسلام، فيجعلون أنفسهم في حد، وشرع الله ورسوله في حد آخر
يعادون الإسلام والمسلمين لذلك استحقوا أن يكونوا من المبعدين الذليلين فى الدنيا والآخرة فالمعاصى والبعد عن الله تذل صاحبها والطاعة وجهاد النفس حتى تستسلم لأمر الله يعز صاحبها
وكل من عادى الإسلام وتعاون مع أولياء الشيطان فهو من أذل الخلق سواء بالقتل أو الأسر أو الطرد من الديار كما فعل مع اليهود والمشركين
ثم تقر الآيات سنة من سنن الله فى النصر والغلبه الغلبة من ؟
{كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ (21 }
فلما كان المنافقين يوالون اليهود ظنا منهم أنهم القوة الغالبة ويجب أن يحسبوا لهم حساب وكانوا يطلبون العون منهم فتأتى الآيات لتبين حقيقة ووعد الله بالغلبة والتمكين لدينه
يقول وهبة الزحيلى : أى حكم الله وقضى في سابق علمه الأزلي أن الله ورسله هم الغالبون بالحجة والسيف ونحوهما، إن الله قوي على نصر رسله، غالب لأعدائه”
إنها سنة الله التى لا تتغير ولا تتبدل وإنها لبشارة للمؤمنين أن سيكون لهم الغلبة فى النهاية على أعدائهم مهما طال الوقت لأن سنن الله غالبة والمؤمن الحق يتعامل مع موعود الله على أنه حق ويقين ومهما كان الواقع الآن مخالف لهذه السنة والذى يظهر هو غلبة أهل الباطل على أهل الحق فهذا الواقع زائل لامحالة وأن فترة وجودة فترة بسيطة ولحكمة عند الله من تسليط أعداء الإسلام على المسلمين حتى يعودوا ويرشدوا إلى دينهم الحق
وختمت الآيات بأن الله قوى له الغلبة وعزيز لا يُقهر فمن كان مع الله كان مع الفئة التى لا تُغلب
ثم تاتى الآيات التى تقيس ميزان الإيمان الحقيقى فى النفوس تلك المفاصلة بين حزب الله وحزب الشيطان
{لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
يقول ابن كثير :
أنزلت هذه الآية ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر ) إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، حين قتل أباه يوم بدر
( أو أبناءهم ) في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن ، ( أو إخوانهم ) في مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ ( أو عشيرتهم ) في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة يومئذ .
كلهم فعلوا ذلك متجردين من روابط الدم منحازين لحزب الله
إنه التجرد لله وحده فى أسمى معانيه رابطة واحدة هى التى تربط بين الناس هى رابطة الإيمان والعقيدة إذا اختار الأهل والأقرباء أن يكونوا من حزب الشيطان وأن يقفوا مع أعداء الإسلام ضد إخوانهم فهنا تحصل المفاصلة والامتحان للنفوس فما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه ولا يجتمع إيمان خالص لله وموالاه أعداء الله فى قلب المؤمن ولو كانوا أقرباءه
يقول ابن حيان : وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم ، فنهاهم عن موادتهم . وقال تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب ، ثم أتى ثالثاً بالإخوان لأنهم بهم التعاضد ثم رابعاً بالعشيرة ، لأن بها التناصر ، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه
أى اثبته فى قلوبهم وقيل جمع لهم الايمان فما كتبه الله فلا زوال له ولا تغيير ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان )
وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ أمدهم بقوة منه وإيمان يملأ صدورهم فيقيسون الحياة بمقاييس الآخرة وترتبط نفوسهم بالجنة ورضى الله عزوجل
يقول النيسابورى : أى استكملوا أجزاء الإيمان بحذافيرها وأيدهم الله بالإيمان والقرآن وسمى “روحا “لأن به حياة القلوب ولأن فيه علو لشأنهم فقد نفضوا عن قلوبهم كل تعلق بغير الله من مال وولد وأهل وعشيرة
ويكون التأييد لهم فى الدنيا بالنصر على أعدائهم وفى الآخرة بأن يدخلهم جنات النعيم ويحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا
الجزاء من جنس العمل فمن أسخط الناس برضى الله فى الدنيا رضى الله عنه فى الدنيا والآخرة فقد عادوا أقرباءهم فى سبيل الله
وتقديم رضى الله على رضاهم لأن رضى الله درجة أعلى من رضى البشر عن أفعال الله معهم فالغاية التى يعيش من أجلها الناس هى أن يرضى الله عنهم وهى التى ينال بها الدرجات العلى من الجنة
يقول مصطفى مسلم : الإشارة بأولئك للبعيد دليل على علو منزلتهم ورفعتهم عند ربهم والتعبير” بألا “هنا للتنبيه على فضله وأنهم مختلفون عن غيرهم وتنبيه للناس جميعا حتى يقتدوا بهم فقد وصفهم بالفلاح الكامل فى الدنيا والأخرة فلم يخصص الفلاح فى مجال معين انما هو فلاح الدنيا والآخرة “
وشتان بين حزبين ورايتين راية الحق وراية الباطل لا يجتمعان ولا يختلطان فلابد من امتحان تمتحن به النفوس حتى تستحق الفوز بالجنة والخلود فيها أبدا فقد تختلف اللهجات والألوان والعشائر لكنهم فى النهاية يجمعهم رابطة الإيمان وتذوب الفوارق كلها تحت مظلة واحدة أما من أختار حزب الشيطان فرق الله شمله فلا يبالى الله به فى أي وادِ أهلكه وإن كان ذاعشيرة ومال يعتز بهم فلا عزة إلا بالله فى الدنيا والآخرة
Source link