تفسير آية أمر الرجال بغض البصر وفوائده – محمد بن علي بن جميل المطري

قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}

 

قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}

تفسير الآية الكريمة:

أي: قل – يا محمد – للمؤمنين يكفوا النظر إلى من يشتهون رؤيته من النساء الأجنبيات وينقصوا من أبصارهم عن النظر إلى الشهوات حذرا من الفتنة في الدين.

وقل لهم يحفظوا فروجهم عن الزنا وعمل قوم لوط وعن أن يراها أحد لا يحل له النظر إليها.

غض المؤمنين لأبصارهم وحفظهم لفروجهم أطهر لقلوبهم وأفضل لهم في دينهم ودنياهم، فليحرصوا على ذلك لتزكوا نفوسهم وتكثر أعمالهم الصالحة.

إن الله خبير بما يصنع الناس ويعلم من يغض بصره ويحفظ فرجه منهم ومن لا يفعل ذلك فليجتهدوا في طاعته وليحذروا من معصيته.

يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/ 254)، ((تفسير ابن عطية)) (4/ 178)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (3/ 290)، ((إحكام النظر)) لابن القطان (ص: 102 و338)، ((تفسير القرطبي)) (12/ 223)، ((تفسير البيضاوي)) (4/ 104)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/ 369، 378، 387)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 47)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (3/ 165)، ((تفسير ابن كثير)) (6/ 41 – 43)، ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 566)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (18/ 203)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/ 506).

آيات في معنى الآية:

  • {{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}} [طه: 131].
  • {{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} } [الإسراء: 32].
  • {{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}} [المؤمنون: 5 – 7].
  • {{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}} [الأحزاب: 35].
  • {{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}} [الأحزاب: 53].

أحاديث في معنى الآية:

  1. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «((إياكم والجلوس بالطرقات)) فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: ((إذ أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه))، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر))» [رواه البخاري (6229) ومسلم (2121)] .
  2.  عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري)» [رواه مسلم (2159)] .
  3.  عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «((يا علي لا تُتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)) » [رواه الترمذي (2777) وحسنه الألباني] . 
  4.  عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «((كُتِب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه))» [رواه البخاري (6243) ومسلم (2657)] .  
  5.  عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «((لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد))» [رواه مسلم (338)] . 
  6.  عن أسامة بن زيد بن حارثة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «((ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء))» [رواه مسلم (2741)] . 
  7.  عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) » [رواه مسلم (2742)] .   
  8. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم))» [رواه مسلم (2963)]
  9.  عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))» [رواه البخاري (4308)] .
  10.  عن معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه قال: « قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك))، فقال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: ((إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل))، قلت: والرجل يكون خاليا، قال: ((فالله أحق أن يُستحيا منه))» رواه الترمذي (2769) وحسنه الألباني.   
  11.  عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((يا معشر شباب قريش لا تزنوا، من حفظ فرجه فله الجنة))» رواه الطبراني في الكبير (12776) والحاكم (8062) وصححه وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2696). 

من أقوال العلماء في أحكام الآية وما يستنبط منها:

  • قال ابن القطان الفاسي المتوفى سنة 628 هـ: “يُنهى عن النظر الذي يجلب حب الدنيا والغنى، ويغيب عن النعم المسداة المعجوز عن شكر أيسرها” ((إحكام النظر في أحكام النظر)) (ص: 102).
  • قال ابن القطان: “كل ما قلنا: إنه لا يجوز أن ينظر إليه الرجل أو غيره من عورة أو شخص، فإنه لا يجوز أن ينظر إلى المنطبع منه في مرآة أو ماء أو جسم صقيل .. لأنه في الحقيقة قد نظر إلى ذلك الشيء بعينه، لكن إما (بانعكاس الأشعة) أو على وجه آخر مما قيل في سبب الإدراك، مما ليس على الفقيه اعتباره، فاعلم ذلك” ((إحكام النظر)) (ص: 322).
  • قال ابن القطان: “النظر إنما حرم في محل الإجماع حذرا من الفتنة، كما حرم الزنا حذرا من اختلاط الأنساب، وشرب الخمر توفيرا للعقل، فإذا كان كذلك وجب غض البصر على كل خائف وحرم عليه أن يرسل طرفه في مواقع الفتن، فإنه إذا فعل ذلك رأى الذي لا كله هو قادر عليه، ولا عن بعضه هو صابر” ((إحكام النظر)) (ص: 338).
  • قال ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هجرية: “إنما بصرك نعمة من الله عليك فلا تعصه بنعمه، وعامله بغضه عن الحرام تربح، واحذر أن تكون العقوبة سلب تلك النعمة” ((ذم الهوى)) لابن الجوزي (ص: 143).
  • قال الرازي المتوفى سنة 606 هجرية: “فإن قيل: فلم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه” ((تفسير الرازي)) (23/ 363).
  • قال القرطبي المتوفى سنة 671 هجرية: “البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله” ((تفسير القرطبي)) (12/ 223).
  • قال ابن تيمية المتوفى سنة 728 هجرية: “النظر المنهي عنه هو نظر العورات ونظر الشهوات وإن لم تكن من العورات” ((مجموع الفتاوى)) (15/ 369).
  • قال ابن تيمية: “الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية لكن لأنه يخاف ثورانها؛ ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز؛ فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة؛ ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما فإنه يباح النظر للحاجة لكن مع عدم الشهوة. وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز، ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه أو أدامه وقال: إني لا أنظر لشهوة: كذب في ذلك؛ فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك” ((مجموع الفتاوى)) (21/ 251).

 

 

فوائد غض البصر:

قال ابن القيم المتوفى سنة 751 هجرية: “في غض البصر عدة منافع:

أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، فليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامره، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره.

الثانية: أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم – الذي لعل فيه هلاكه – إلى قلبه.

الثالثة: أنه يورث القلب أنسًا بالله وجمعية عليه، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته، ويبعده عن الله، وليس على القلب شيء أضر من إطلاق البصر، فإنه يورث الوحشة بين العبد وربه.

الرابعة: أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.

الخامسة: أنه يكسب القلب نورا، كما أن إطلاقه يلبسه ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] [سورة النور: 30] ثم قال إثر ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] أي: مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدع وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة، فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا نفذ ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام.

السادسة: أنه يورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، والصادق والكاذب، وكان شجاع الكرماني يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال، لم تخطئ له فراسة.

والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه، فإذا غض بصره عن محارم الله، عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته، عوضا عن حبس بصره لله، ويفتح عليه باب العلم والإيمان، والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة.

السابعة: أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة، فجمع الله له بين سلطان النصرة والحجة، وسلطان القدرة والقوة.

الثامن: أنه يسدل على الشيطان مدخله من القلب، فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها، ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ثم يعِده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويُلقي عليها حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهب.

التاسعة: أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاق البصر ينسيه ذلك ويحول بينه وبينه، فينفرط عليه أمره، ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.

العاشرة: أن بين العين والقلب منفذا وطريقا يوجب انتقال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه، ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب، وكذلك في جانب الصلاح، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك، فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما وراءها” ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) (ص: 178 – 180).

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

إنك امرؤٌ فيك يهودية! – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة الخسارة حقًّا أن يفهم المرء ذلك، ثم يشابههم ويقتبس شعبة منهم، فيصير …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *