(الارتباط بين الفقر والفواحش – سبُل الإسلام في مواجهة الفَقر – الفقر ليس مسوِّغًا للفواحش)
يحكي لنا النبيُّ ﷺ، عن رجلٍ خرجَ ليلةً قائلًا: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، (أيْ وهو لا يعلمُ أنَّهُ سارقٌ) فَأَصْبَح الناس يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ (يعني: وهو لا يعلمُ ذلكَ) فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ؟ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، عَلَى سَارِقٍ! وَعَلَى زَانِيَةٍ! وَعَلَى غَنِيٍّ! فرأى في رؤياه قائلًا يبشِّرُه: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ، فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الغَنِيُّ، فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ». [1].
امرأةٌ تقعُ في مستنقَعِ الفواحشِ بدَعوى الحاجةِ، ورجلٌ يسرِقُ أموالَ الناسِ بدَعوى الفَقرِ!
إنها ثُنائيَّةُ الشَّيطانِ اللَّعينِ في الكيدِ لابنِ آدمَ.
أخبرَنا اللهُ عنها فقال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ﴾ [البقرة: ٢٦٨].
هكذا يُخوِّفُهم الفَقرَ ليقعُوا في الفواحشِ.
لقد كان أهلُ الجاهليَّةِ يقتُلُ أحدُهم ولدَه خشيةَ أن يأكلَ معَه، فنهاهم اللهُ قائلًا: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: ٣١].
أوَلَمْ تسمعْ عن تلك المرأةِ التي راوَدَها ابنُ عمِّها عن نفسِها فامتنعَتْ، فلمَّا أصابَتْها الحاجةُ وافقَتْ على ارتكابِ الفاحشةِ بمائةٍ وعشرينَ دينارًا، حتى إذا كادَتْ تفقدُ شرفَها صرختْ فيه قائلةً: «اتَّقِ اللَّهَ! وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ!»، فقامَ عنها وتركهَا للهِ، ففرّجَ اللهُ عنه كَربَهُ. [2].
وكَمْ من شابٍّ عزَفَ عن الزّواجِ خشيةَ الفَقرِ، ولرُبّما وَسوسَ إليه الشَّيطانُ بيُسرِ الحرامِ وعُسرِ الحلالِ، ولذا قالَ تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: ٣٢].
لقد كانَ النبيُّ ﷺ كلَّ ليلةٍ قبلَ نومِهِ يدعو ربَّهُ: «اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ»صحيح مسلم (٢٧١٣)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.” data-original-title=”” title=””> [3].
ولقد عدَّ النبيُّ ﷺ الفقرَ فتنةً، واستعاذَ مِن شرِّه، فقال: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ». [4].
وكان يستعيذُ منه تَباعُدًا عن الذِّلّة، فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ».الألباني في إرواء الغليل (٣/٣٥٥).” data-original-title=”” title=””> [5].
بل لقد بلغَ تعوُّذُه ﷺ منه أن قرنَهُ بالكفرِ، لأنَّهُ من أخبثِ أسبابِهِ، فكانَ يقولُ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ» [6].
وليسَ يخفى عليكم نشرُ الصَّليبيّينَ دينَهمُ الباطلَ بينَ فُقراءِ المسلمينَ، منتَهِزين فقرَهم وحاجتَهم.
وإذا أردتَ أن ترى صورةً عمليَّةً تشمئزُّ منها نفوسُ ذوي الفِطَرِ السَّويّةِ، فانظُرْ إلى تلكَ المِنَصّاتِ الهابطةِ، كيفَ تخلّى كثيرٌ مِن الذُّكرانِ عن رُجولتِهم، فعرضوا نساءَهم طمعًا في مالٍ، وتعرَّينَ بلا حياءٍ بحثًا عن الثَّراءِ بلا كُلفةٍ.
إنَّ الإسلامَ دينُ اللهِ الكاملُ، وضعَ من السُّبلِ ما يُعالِجُ به قضيةَ الفَقرِ أحسنَ العلاجِ وأكملَه، ليبقى المجتمعُ سويًّا مترابِطًا، نقيًّا من الفواحشِ والرَّذائلِ.
فلْنَعلَمْ أوّلًا أنَّ اللهَ يقبِضُ ويبسُطُ بعدلِه وحِكمتِه، وقدَّر سبحانَهُ الفَقرَ والغِنى، قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: ٣٠].
فالغنيُّ ممتحَنٌ بغِناه، والفقيرُ ممتحَنٌ بفَقرِه، فمَن شكَرَ وصبَرَ، كانت له العاقبةُ في الأولى والآخرةِ.
ورُغمَ ذلك، لم يدعُ الإسلامُ يومًا أتباعَه للفَقرِ، بل دَعاهُم أن يدفَعُوا القدَرَ بالقدَرِ، وأن يأخذوا بالأسبابِ المشروعةِ.
ها هو الإسلامُ يدعو أهلَه إلى العملِ الحلالِ الطيّبِ، ويُرغّبُهم فيهِ، يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: ١٥].
ألم يبلُغْك قولُ النبيِّ ﷺ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». [7].
وأخبرنا ﷺ أنَّ زكريَّا عليهِ السَّلامُ كان نجَّارًا. [8].
بل ما مِن نبيٍّ إلَّا ورعى الغنَمَ، يقولُ ﷺ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ – يعني فلوسًا يسيرَة – لِأَهْلِ مَكَّةَ»البخاري (٢٢٦٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.” data-original-title=”” title=””> [9].
وها هو النبيُّ ﷺ يقرِّر قاعدةً ذهبيَّةً، قائلًا فيمَن خرج بحثًا عن رزقِهِ: «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَتَفَاخُرًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ» [10].
بل ومن عظيمِ محاسنِ الإسلامِ أن جعلَ ما يُنفِقُهُ الرَّجلُ على أهلِهِ وأولادِهِ صدقةً.
يقول النبيُّ ﷺ: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» [11].
ولأنَّهُ سيبقى في النَّاسِ مَن لا يقدِرُ على العملِ لِعَجزِهِ ومرَضِهِ، ومَن تَضيقُ بهِ النَّفَقَةُ، أوجَبَ اللهُ الزَّكاةَ، بل جعلَها رُكنًا من أركانِ الإسلامِ الخَمسِ، وجعلَها حقًّا معلومًا مُقدَّرًا من حقوقِ الفقراءِ والمساكينِ، ليستْ تفضُّلًا ولا مِنَّةً.
قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٦٠].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: ٢٤-٢٥].
ثُمَّ أمرَ الإسلامُ وُلاةَ الأُمورِ بإحصائِها وجِبايتِها وتوزيعِها على المُستحقِّينَ، حتَّى إنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رضيَ اللهُ عنهُ لمَّا امتنَعَت بعضُ القبائلِ عن أدائِها حارَبَهُم لأجلِها.
إنَّ تشريعَ الزَّكاةِ ليسَ دعوةً للبَطالةِ، بل تشريعٌ وقائيٌّ وعلاجيٌّ لِمَن ضاقَت بهم سُبُلُ الدُّنيا، أمَّا أولئك المُحتالونَ على أموالِ الزَّكاةِ بلا حقٍّ فإنَّما يأكُلونَ في بُطونِهِم نارًا.
وفي ذلك يقرِّرُ النبيُّ ﷺ مستحقّيها فيقول: «لا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» [12].
إنَّ المسلمَ عفيفٌ لا يسألُ النَّاسَ إلَّا عندَ الحاجةِ، لأنَّ النَّبيَّ ﷺ يقول: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ». [13].
وبنظرةٍ عابرةٍ في كتابِ اللهِ، ترى عشَراتِ الآياتِ التي يدعو اللهُ عبادَه فيها إلى الإنفاقِ في سبيلِهِ ومُواساةِ الفُقراءِ وإطعامِهم، وانظر كم في الكفَّاراتِ من إطعامِ المساكينِ وكِسوتِهم، بل هل تجد أجملَ من أن يكونَ الساعي على الأرملةِ والمسكينِ كالمجاهدِ والعابدِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ».صحيح البخاري (٥٣٥٣)، وصحيح مسلم (٢٩٨٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.” data-original-title=”” title=””> [14].
إنَّ على كلِّ راعٍ ومسؤولٍ أن يؤدِّي ما عليه في إيصالِ الحقوقِ إلى أهلِها، فكم من فقيرٍ ومِسكينٍ أصابَه الفَقرُ لأنَّ حقَّه لم يصلْ إليه، حُرِمَ من وظيفتِه، أو ضُيِّع حقُّه لأجلِ غنيٍّ، لذا توعَّد النبيُّ ﷺ كلَّ مسؤولٍ حجَب نفسَه عن حاجاتِ الفُقراءِ بلا حقٍّ فقال: «مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ، وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ، وَفَقْرِهِ» [15].
وإنَّ من أعظمِ ما يُسبِّبُ الفقرَ أن يأكُلَ الغنيُّ حقَّ الفقيرِ، حين يشيعُ الظُّلمُ والفَسادُ ويتشاركُ أصحابُ المصالحِ وعُبّادُ الدُّنيا بالاستئثارِ بالمالِ دونَ غيرِهمْ.
ها هو النَّبيُّ ﷺ تأتيهِ فاطمةُ رضيَ اللهُ عنها، وهي ابنتُه وأحبُّ النَّاسِ إليه، تسألُهُ خادِمًا تُعينُها على ما أمرضَها من العَمَلِ في بيتِ زوجِها، فيأبَى ويقول: «لَا أُعْطِيكُمْ وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَلَوَّى بُطُونُهُمْ مِنْ الْجُوعِ» [16].
وختامًا نقولُ لِمَن عضَّهُ الفَقرُ بِنابِه: إيّاكَ أن يَحمِلَكَ فَقرُكَ على معصيةِ ربِّكَ، فإنَّ اللهَ وعدَ مَنِ اتَّقاهُ بالفَرَجِ واليُسرِ والبَرَكَة، يقولُ ﷺ: «مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَه». [17].
______________________________________________
المصدر: حصين للأبحاث والدراسات
Source link