منذ حوالي ساعة
والخلاصة أن الحياة كالمرآة؛ تريك صورتك كما تقدّم لها وجهك؛ فإن أقبلتَ عليها بالبِشر ردّت إليك صورةً مشرقة، وإن أقبلتَ عليها بالعبوس ردّت إليك ظلًّا كئيبًا.
من أحبّ الصفات إلى قلبي صفةُ التفاؤل، ومن أحبّ الأشخاص إليّ المتفائلون.
إن هذه الحياة كالبحر الخِضَمّ، لا يعبرها إلا من جعل أشرعة سفينته التفاؤلَ والرجاء. ولا عجب؛ فالمتفائل ينظر إلى أقدار الله بحسن الظن، ويرى في كل ألمٍ أملًا، وفي كل محنةٍ منحة، وفي كل كسرٍ جبرًا عظيمًا.
والتفاؤل ليس فلسفةً معقّدة، ولا لغزًا صعبًا يعسر حلّه، ولا زينةً نعلّقها على جدار الأيام، ولا مجرد كلمة نُردّدها بأفواهنا بما ليس في قلوبنا؛ بل هو شعور عميق يلازم الروح، فيجعلها تستقبل الصباح بنفسٍ مطمئنةٍ مبتهجة.
هو أن يكون عندنا فنّ الاستمتاع بالأشياء الصغيرة: أن نجد في رغيف الخبز الصغير وليمة، وفي قطرات المطر موكبًا من البهجة، وفي صوت العصافير نشيدًا مطربًا.
نعم، وأن نلمح في أيسر الأشياء – في نسمةٍ عليلة، أو ظلِّ شجرة، أو بريقِ نجمة – ما يملأ القلب سرورًا، ويُنسيه أثقال الأمس ومخاوف الغد.
ومن أسرار هذه الحياة ـ وما أكثر أسرارها ـ أنك تغلبها بالتفاؤل والابتسامة، على ما كانت عليه ظروفك؛ فالحياة تنقّيها نظرةُ الرضا، ويزيدها جمالًا لمحةُ الشكر، ويُضفي عليها البهجةَ حسنُ الظن بالله والفرح به.
والتفاؤل ليس خيالًا فارغًا، بل هو قوة تبعث على النشاط في العمل؛ ومن وُهب قلبًا متفائلًا استخرج من شوك الطريق أزهارًا، واتخذ من وعورة الدرب سُلَّمًا إلى القمة.
إن الابتهاج بالحياة فنّ وملكةٌ تُربَّى كما تُربَّى الأخلاق، وعادةٌ تُكتسَب كما تُكتسَب المهارة، ومفتاحها أن نرى الخير في الناس، والجمال في الأشياء، والفرص في الأزمات، وأن نعيش الحاضر بوعي؛ فلا نُحمّل قلوبنا هموم الأمس، ولا نُضيّع أوقاتنا في أوهام الغد، بل نعيش في حدود يومنا بعفويته وروعته، نراه هبةً عظيمة من الله، نعمل فيه الصالحات، ونجدد فيه التوبة، ونصلح ما تعثّر فيه من أمورنا.
حتى لو سقطتَ في الوحل، فما يدريك؟ لعلّ هذا السقوط يكون وقودًا لقفزةٍ تسبق بها سبقًا بعيدًا.
إن في الحياة جمالًا لا يلمحه إلا من أشرقت نفسه بالتفاؤل، وانفسح صدره بالأمل، واطمأن قلبه لموعود الله؛ حتى لكأنه صفحةٌ من كتاب الرحمة، سطورها آيات البِشر والرضا.
والتفاؤل ليس أن تنسى آلامك ومواجعك، بل أن تراها طريقًا إلى أفراحك، وأن تلمح من بين ثقوب المحن عظائم المنح؛ أن تمشي في دروب الحياة وأنت على يقينٍ أن بعد كل ليلٍ دامس فجرًا صادقًا، وفي أعماق كل شدة فرجًا ينتظر ساعة الخروج، وأن وراء كل المواجع فرحًا يرسم مباهجه على صفحات أيامك.
ففي كل يوم ميلادٌ جديد لمن أراد أن يولد، ويفتح صفحة جديدة مع الحياة. ومع بزوغ كل فجر وعدٌ صادق بأن الليل مهما أغطش ستبدّده أنوار الصباح، وأن الريح التي تُلهب وجهك بالسموم اليوم، ستحمل إليك غدًا عبيرًا منعشًا كنسيم الصبا جاء بريّا القرنفل.
وإذا اشتدّ عليك ليلُ الألم فتلمّح وراءه نور الفجر، وإذا وقعت عينك على الشدة فأعدَّ المتّكأ للفرج. ولا عزاء لأولئك المتشائمين الذين إن فُتحت لهم أبوابُ الجنان خافوا أن تُغلق، ولو أُهديت إليهم وردة شكَوا من شوكها، وإذا قدِم إليهم الحبيب استجرّوا لحظات الفراق؛ فأنّى لهؤلاء والسعادة؟
والخلاصة أن الحياة كالمرآة؛ تريك صورتك كما تقدّم لها وجهك؛ فإن أقبلتَ عليها بالبِشر ردّت إليك صورةً مشرقة، وإن أقبلتَ عليها بالعبوس ردّت إليك ظلًّا كئيبًا.
فأقبل على أيامك في حبور الواثق، وامضِ في رحلتك بروحٍ تفرح بالعواصف لأنها تحمل في طياتها المطر، وتأنس بالمجهول لأنه في تدبير اللطيف. وتذكّر دائمًا أن وجه الحياة لمن ابتسم لها، كوجه الحبيب لمن أخلص له الحب.
______________________________
الكاتب: طلال الحسان
Source link