علة حديث: (من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء)
بقلم/ محمد بن جميل المطري
قال الإمام الترمذي في سننه (2021): حدثنا عباس الدوري وغير واحد قالوا: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ قال: حدثنا سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظًا وهو يستطيع أن يُنْفِذَهُ دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء) هذا حديث حسن غريب.
قلت: الترمذي إذا حسَّن الحديث ولم يصححه فقد يكون فيه ضعف، فهو لا يريد بتحسين الحديث الحسن المعروف في المصطلح بأن يكون في رواته من خفَّ ضبطُه، فهذا الحديث الحسن مقبولٌ عند المحدثين، وكثيرٌ من الحديث الحسن الذي خف ضبطُ راويه موجود في سنن الترمذي ويقول عنه: حسن، وقد بيَّن الترمذي ماذا يقصد بقوله: حسن في كتابه العلل الصغير (ص: 758) فقال: “وما ذكرنا في هذا الكتاب: (حديث حسن) فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يُتَّهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًا، ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن”. انتهى كلام الترمذي بحروفه، وهذا مما خفي على بعض أهل العلم، فيظنون أن الترمذي يُحسِّن الحديث باصطلاح المتأخرين، مع أنه قد يُحسِّنه وإن كان فيه ضعفٌ باصطلاحه، وقد يقول الترمذي في حديث: حسن، وهو حسنٌ أيضًا باصطلاح المتأخرين، وانظر في بيان معنى قول الترمذي: حسن كتاب شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 606)، ورسالتي: معنى تحسين الترمذي للحديث، وهي منشورة بحمد الله في شبكة الألوكة.
وهذا الحديث الذي قال فيه الترمذي: “حديث حسن غريب” تفرد بروايته سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه كما في المفاريد لأبي يعلى الموصلي (ص: 29)، ورواه عن سهل: أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، وخير بن نُعَيم، وزبَّان بن فائد، وفروة بن مجاهد كما في حلية الأولياء لأبي نُعيم (8/ 47).
وقد حسَّن هذا الحديث الألباني في تحقيقه لسنن الترمذي وسنن أبي داود وسنن ابن ماجه، وكذلك حسنه محققو مسند أحمد (24/ 398)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود (7/ 157)، وحسين سليم أسد في تحقيقه لمسند أبي يعلى (1497).
ولعل بعض هؤلاء العلماء اعتمدوا في تحسينهم لهذا الحديث على قول الحافظ ابن حجر في قبول أحاديث سهل بن معاذ إذا كانت من غير رواية زبَّان بن فائد عنه، قال ابن حجر في تقريب التهذيب (ص: 258): “لا بأس به إلا في روايات زَبَّان عنه”، وسهل بن معاذ ضعَّفه أكثر العلماء كيحيى بن معين وأحمد بن حنبل وابن حبان وغيرهم، ووثقه العِجلي، قال ابن حبان في كتابه الضعفاء: “منكر الحديث جدًا، فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه أو من زبَّان، فإن كان من أحدهما فالأخبار التي رواها ساقطة، وإنما اشتبه هذا لأن راويها عن سهل: زبان إلا الشيء بعد الشيء، وزَبَّان ليس بشيء”، وقال ابن حبان أيضًا: “لا يعتبر حديثه ما كان من رواية زَبَّان بن فائد عنه”. يُنظر: المجروحين لابن حبان (1/ 347)، الثقات لابن حبان (4/ 321)، تحرير تقريب التهذيب لبشار عواد وشعيب الأرناؤوط (2/ 89).
وقول ابن حجر في قبول أحاديث سهل بن معاذ إذا كان من غير رواية زَبَّان قول جيد إلا إذا كان متن الحديث غريبًا في معناه، ولم نجد له متابعًا ولا شاهدًا مقبولًا كهذا الحديث، فالأقرب أنه حديث ضعيف؛ لتفرد هذا الراوي به، ومتنه منكَرٌ جدًا لمن تأمله، فكون المؤمن الذي كظم غيظه يُدعى يوم القيامة قبل أن يدخل المؤمنون الجنة ليخيِّره الله ما شاء من الحور العين على رؤوس الخلائق معنى غريب جدًا، ولو صح عن النبي عليه الصلاة والسلام لصدَّقنا به، ولكنا لا نجد لهذا الحديث نظيرًا في غيره من الأحاديث الصحيحة إلا في حديث آخر تفرد به أيضًا سهل بن معاذ نفسه، وحديث ثان تفرد به راو متروك كذَّبه بعض العلماء، وسيأتي ذكرهما قريبًا، فهذا يرجح التوقف في تصحيح هذا الحديث كما توقف الإمام الترمذي فلم يصححه، وإنما حسنه على اصطلاحه، والله أعلم.
وقد ضعَّف هذا الحديث القاضي الرُّباعي الصنعاني في فتح الغفار (4/ 2179) فقال: “سهل بن معاذ فيه مقال”، والعلامة العظيم آبادي في كتابه عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/ 95) فقال: “سهل بن معاذ بن أنس الجهني ضعيف، والذي روى عنه هذا الحديث: أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون الليثي مولاهم المصري، ولا يحتج بحديثه”، والدكتور ماهر الفحل في تحقيقه لجامع العلوم والحكم (1/ 408) حيث قال: “في إسناده سهل بن معاذ، ضعَّفه بعض الأئمة”، وقال محمد الحوت عن هذا الحديث في كتابه أسنى المطالب (ص: 285): “فيه مجاهيل وضعفاء، وحسنه الترمذي”.
وورد حديث آخر بمعنى هذا الحديث وبنفس إسناده، قال الإمام الترمذي (2481): حدثنا عباس بن محمد الدوري قال: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ قال: حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيِّره من أيِّ حُلَل الإيمان شاء يلبسها)، هذا حديث حسن. انتهى كلام الترمذي.
فالإمام الترمذي حسَّنه على اصطلاحه، وحسنه العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (5/ 2045) والألباني في السلسلة الصحيحة (718) ومحققو مسند الإمام أحمد (24/ 394)، أما ابن الجوزي فقال في العِلَل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 190): “هذا حديث لا يصح، قال يحيى: سهلٌ وعبد الرحيم ضعيفان”.
وقد جمع الحديثين بعض الرواة، قال أحمد بن حنبل في مسنده (15619): حدثنا حسن قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا زبَّان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كظم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حور العين أيتهن شاء، ومن ترك أن يلبس صالح الثياب، وهو يقدر عليه تواضعًا لله تبارك وتعالى، دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره الله تعالى في حلل الإيمان أيتهن شاء)، وفي إسناده زبَّان بن فائد، وهو ضعيف، رواه عنه غير واحد، لكنه قد توبع كما تقدم نقله من حلية الأولياء (8/ 47)، وقال أبو داود (4778): حدثنا عقبة بن مكرم قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن بِشر بن منصور عن محمد بن عَجْلان عن سُويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه، قال: (ملأه الله أمنًا وإيمانًا)، لم يذكر قصة (دعاه الله)، زاد: (ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعًا كساه الله حلة الكرامة، ومن زوَّج لله تعالى توَّجه الله تاج الـمُلك)، وضعفه الألباني لكون سويد بن وهب مجهول، وقد ذكر ابن طاهر في الكلام على أحاديث الشهاب أن هذا سند مجهول، والذي لم يسم ابن عجلان هو: سهل بن معاذ، أفاده الغماري في كتابه المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي (6/ 405)، فهذا الحديث هو نفسه حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني، فلا يصح أن يُجعل شاهدًا له، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 189) من طريق بقية بن الوليد عن إبراهيم بن أدهم قال: سمعت رجلًا يحدث عن محمد بن عجلان عن فروة بن مجاهد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظًا وهو قادر على إنفاذه خيَّره الله من الحور العين يوم القيامة، ومن ترك ثوب جمال وهو قادر على لبسه كساه الله رداء الإيمان، ومن أنكح عبدًا لله وضع الله على رأسه تاج الـمُلك)، وهذا إسناد ضعيف فيه مجهول، وبقية بن الوليد مدلس وقد عنعنه، قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب (ص: 126): “بقية بن الوليد الكِلاعي صدوق كثير التدليس عن الضعفاء”، وفي إسناد أبي داود والطبراني محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق حسن الحديث، وقد اضطرب في هذا الحديث، فمرة حدَّث به عن سويد بن وهب، ومرة حدث به عن فروة بن مجاهد، ويحتمل أنه سمعه منهما لكنه مدلِّس وقد عنعنه، ذكره ابن حجر في الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين (ص: 44)، وهي طبقة من أكثر من التدليس فلم يحتَجَّ الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقًا، ومنهم من قبلهم، وقال الذهبي في كتابه من تُكلِّم فيه وهو موثَّق (ص: 165): “محمد بن عجلان صدوق، قال الحاكم وغيره: سيء الحفظ، وخرَّج له مسلم في الشواهد”، والظاهر أن علة الحديث سهل بن معاذ الجهني، فكثرة الطرق عنه تدل على أنَّه حدَّث به، والراجح فيه أنه راو ضعيف، ولم يتابَع على هذا الحديث، ولا يوجد شاهد لحديثه إلا من رواية من هو أشد ضعفًا منه!
روى الروياني في مسنده (1216) من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن يمضيه أو على أن يُنفِذَه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق فخيَّره أي حُلَل الإيمان شاء) وإسناده ضعيف جدًا، في سنده جعفر بن الزبير الدمشقي، وهو متروك الحديث كما قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب (ص: 140)، وذكر الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 406) أنه كذَّبه شعبة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال البخاري: تركوه، وقال ابن عدي: الضعف على حديثه بيِّن، فهذا الشاهد وجوده كعدمه، فلا يصلح شاهدًا لحديث سهل بن معاذ بن أنس، فمن المقرر في علم المصطلح أن الحديث إذا كان في سنده كذاب أو متروك لا يصلح في الشواهد والمتابعات.
هذا ما يسر الله كتابته، فإن أصبت فبتوفيق الله الكريم المنان، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
Source link