إِنَّهَا المنزِلَةُ الأعظَم، ومنهَا تَنْشَأُ جمِيعُ مَنَازِلِ السالكينَ، والطريقُ الذي مَنْ لم يَسِرْ عليهِ، كانَ مِنَ المُنقَطِعِين؛ فَهُوَ رُوحُ الأعمالِ، ومَحَكُّ الأحوالِ، وأساسُ الدِّينِ، وعَمُودُ اليقينِ؛ إِنَّهُ الصدق!
إِنَّ الحَمدَ لِله، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ، ونَستَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: فَأُوصِيكُم ونَفْسِي بتقوَى اللهِ؛ فَهِيَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجِنَان، ومَحَبَّةِ الرَّحمَن! {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ}.
عِبَادَ الله: إِنَّهَا المنزِلَةُ الأعظَم، ومنهَا تَنْشَأُ جمِيعُ مَنَازِلِ السالكينَ، والطريقُ الذي مَنْ لم يَسِرْ عليهِ، كانَ مِنَ المُنقَطِعِين؛ فَهُوَ رُوحُ الأعمالِ، ومَحَكُّ الأحوالِ، وأساسُ الدِّينِ، وعَمُودُ اليقينِ؛ إِنَّهُ الصدق![1]
ومعنَى الصدق: يَشمَلُ الصِّدقَ معَ الله: بإخلاصِ العبادةِ لله، ويشملُ الصدقَ معَ النفْس: بإقامتِهَا على شرعِ الله، ويشملُ الصدقَ معَ الناس: في الكلامِ والوعودِ والمعاملات.
وبالصدقِ: تَمَيَّزَ أهلُ الإيمانِ من أهلِ النفاقِ! فالإيمانُ: أساسُهُ الصدقُ، والنفاقُ: أساسُهُ الكذبُ؛ قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}.
ومَعِيَّةُ اللَّهِ معَ الصادقِينَ، ودرجتُهُم تالِيَةٌ لِدَرَجَةِ النَّبِيِّينَ، التي هِيَ أَرفَعُ درجاتِ العالمَين![2] {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ والشُّهَداء}.
وقدَّمَ اللهُ الصِّدِّيقَ على الشهيد؛ لأنَّ الحياةَ في سبيلِ الله، أصعبُ من الموتِ في سبيل الله! قال بعضُ السلف: (لأَنْ أَبِيتَ لَيلَةً أُعَامِلُ اللهَ بِالصِّدقِ: أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَضْرِبَ بِسَيْفِي في سَبِيلِ الله)[3].
وحقيقةُ الصدقِ: لا تَظْهَرُ إِلَّا عند الشدائد. وحينَ يتساقطُ الناسُ في الفِتَن، لا يَنْجُو مِنها إلَّا الثابتونَ الصادقون! قال عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
والصِّدِّيقِيَّةِ: أعلَى مراتِبِ الصدقِ: وهيَ كمالُ الإخلاصِ لله، والانقيادِ لِرَسُولِ الله[4].
والصدقُ مِفتاحُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وهِيَ غايتُهُ[5]؛ قال ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ؛ وما يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ؛ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا».[6]
والصدقُ عَمَلٌ ظاهِرٌ وباطِن، وأَثْنَى اللهُ على الصادقينَ بأعمالِهِم[7]؛ قال عز وجل: {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفي الرِّقَابِ وأَقَامَ الصَّلَاةَ وآتَى الزَّكَاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}.
والصدقُ يَطْمَئِنُّ إِليهِ القلبُ، ويَجِدُ عندَهُ سُكُونًا وارْتِيَاحًا. والكَذِبُ يُوْجِبُ لِلْقَلْبِ اضطِرَابًا وارتِيَابًا![8] قال ﷺ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ»[9]. قال بعضُهُم: (مَنْ قَلَّ صِدْقُهُ: قَلَّ صَدِيقُهُ!)[10].
ومَن لَزِمَ الصدقَ والبيانَ؛ بُورِكَ لَهُ في دِينِهِ ودُنيَاهُ، قال بعضُ السلف: (ما افْتَقَرَ تَاجِرٌ صَدُوقٌ)[11]؛ قال ﷺ: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وبَيَّنا: بُوْرِكَ لهما في بَيْعِهِمَا، وإِنْ كَذَبَا وَكَتَما: مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا».[12]
وفي يومِ القيامَةِ: لا ينفَعُ العَبدَ إلَّا صِدْقُهُ! فَبِالصَّدْقِ: تَمَيَّزَ أهلُ الجِنَانِ مِنْ أهلِ النيرانِ[13]؛ وهل عُمِرَتِ الجَنَّةُ إلَّا بأهلِ الصِّدقِ المُصَدِّقِينَ بِالحَقِّ![14] {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}. قال البغوي: (أي يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ في الدُّنْيَا، صِدْقُهُم في الآخِرَةِ؛ ولو كَذَبُوا: خَتَمَ اللهُ على أَفوَاهِهِم، ونَطَقَتْ بِهِ جَوَارِحُهُم فَافْتُضِحُوا)[15].
وقَسَّمَ سبحانه وتعالى الخَلْقَ إلى قِسمَين: سُعَدَاءَ وأشْقِيَاءَ، فَجَعَلَ السُّعَدَاءَ هُم أهلَ الصِّدْقِ والتصديق، وجَعَلَ الأشقِيَاءَ هُم أهلَ الكذبِ والتكذيب[16]. فَالْزَمُوا الصدقَ؛ تكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ![17] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}.
وقَلْبُ الصَّادِقِ: مُمْتَلِئٌ بِنُورِ الإيمانِ واليقين! قال ابنُ القيِّم: (المُرِيدُ الصَّادِقُ: يَرْزُقُهُ اللهُ فَهْمًا في كِتَابِهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ، ومَنْ طَلَبَ اللهَ بِالصِّدْقِ؛ أَعْطَاهُ مِرْآةً يُبْصِرُ فِيهَا الحَقَّ والبَاطِلَ! وإِذَا صَدَقَ المُرِيدُ: فَتَحَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ بِبَرَكَةِ الصِّدْقِ: مَا يُغْنِيهِ عَنِ أَفكَارِ النَّاسِ وآرَائِهِم، وعنِ العُلُومِ التي لَيْسَتْ مِنْ زَادِ القَبْرِ!)[18]. قال ﷻ: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
والصادقونَ معَ اللهِ: لا ينتظرونَ المديحَ والإطراء، ولا يُبَالُونَ بالشُّهْرَةِ والأَضواء؛ لأنهم يَرجُونَ ما عِندَ الله، ويخافونَ عذابَه؛ ولسانُ حَالِهم يقول: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا* إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}.
والمسلمُ الصادقُ: لا يتحزَّبُ ولا يَتَعَصَّبْ، بل إنْ سُئِلَ عن شَيْخِهِ؟ قال: (الرَّسُولُ)، وإن سُئِلَ عن مَذْهَبِهِ؟ قال: (تَحكِيمُ السُّنَّةِ)، وإن سُئِلَ عن مقصُودِه؟ قال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، وإن سُئِلَ عن نَسَبِهِ؟ قال:
أَبِي الإِسْلامُ لا أَبَ لِي سِوَاهُ ** إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ[19]
والصادقونَ الناصِحُونَ: يتواضَعُونَ لِلْحَقِّ، ويَرْحَمُونَ الخَلْق![20] قال ابنُ القَيِّم: (البَصِيرُ الصَّادِقُ: يُعَاشِرُ كُلَّ طَائِفَةٍ على أَحْسَنِ ما مَعَهَا، ولا يَتَحَيَّزُ إلى طَائِفَةٍ، ويَنْأَى عنِ الأُخْرَى بِالكُلِّيَّةِ؛ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّادِقِينَ)[21].
والمؤمنُ الصَّادِقُ: يَضْرِبُ في كُلِّ غَنِيمَةٍ بِسَهْمٍ، فَهُوَ يَتَنَقَّلُ في مَنَازِلِ العُبُودِيَّةِ، وهُوَ مُقِيمٌ على مَعْبُودٍ وَاحِدٍ، لا يَنْتَقِلُ إلى غيرِه[22]؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.
أَقُولُ قَوْلِي هذا، وأستَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمدُ للهِ على إِحسَانِه، والشُّكرُ لَهُ على توفِيقِهِ وامتِنَانِه، وأَشْهَدُ أَن لا إلهَ إِلَّا الله، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُه.
عِبَادَ الله: الجزاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَل؛ فَمَنْ صَدَقَ مَعَ اللهِ: أَعطَاهُ اللهُ على حَسَبِ صِدْقِهِ؛ فقد جاءَ أعرابيٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فآمَنَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزوَةٌ: غَنِمَ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَسَمَ لَهُ مِنَ الغَنِيمَة، فقالَ الأَعرابِيُّ: (ما على هذا اتَّبَعْتُكَ! ولَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ على أَنْ أُرْمَى إلى هاهُنَا -وأَشَارَ إلى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ) فقال ﷺ: «إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ» فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا في قِتَالِ العَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حيثُ أَشَارَ! فقال ﷺ: «أَهُوَ هُوَ؟!» قالوا: (نَعَمْ) فقال: «صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ!»[23] {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
[2] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/257).
[3] المصدر السابق (2/265).
[4] انظر: المصدر السابق (2/258).
[5]انظر: المصدر السابق (2/261).
[7] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/258).
[8] انظر: المصدر السابق (2/479).
[9] رواه الترمذي وصحّحه (2518).
[10] أدب الدنيا والدين، الماوردي (261).
[11] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/267) (4/134). بتصرف
[12] رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
[13] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (2/257).
[14] انظر: مفتاح دار السعادة، ابن القيم (2/74).
[15] تفسير البغوي (3/123).
[16] قال ابن القيم: (فما أنعمَ اللهُ على عبدٍ –بعد الإسلام– بنعمةٍ أفضلَ مِنَ الصدقِ، ولا ابتلاهُ ببليةٍ أعظمَ مِنَ الكذب). زاد المعاد (3/517). بتصرف
[18] مدارج السالكين (2/266، 346، 348). بتصرف
[19] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم (3/165).
[20] قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: (أهلُ السُّنَّةِ يَتَّبِعُونَ الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمُ الذي جاءَ بِهِ الرسولُ، ولا يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهِ؛ بَلْ هُمْ أَعْلَمُ بِالحَقِّ، وأَرْحَمُ بِالخَلْقِ؛ كما وَصَفَ اللهُ بِهِ المُسلِمِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، وأهلُ السُّنَّةِ نَقَاوَةُ المُسْلِمِينَ، فَهُمْ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ). منهاج السنة النبوية (5/158).
[21] مدارج السالكين، ابن القيم (2/350). باختصار
[22] انظر: المصدر السابق (3/320).
[23] رواه النسائي (1953)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (3756).
Source link