منذ حوالي ساعة
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد واجب ديني، بل ضرورة حضارية، وحاجة اجتماعية، ومسؤولية إنسانية.
كثيرًا ما نتحدث عن السنن المهجورة، ونتباكى على ضياعها من واقعنا المعاصر، بينما ننسى – أو نتناسى – **سنة السنن**، وهي الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كـ”رسول”… كمبلغ يحمل هموم الدعوة ويتفانى في إيصالها …
كشمعة تبدد ظلمات الجهل والضلال …
كمُصلِح يسعى لتغيير الواقع والنهوض بالمجتمع وليس فقط صالِحًا في نفسه منزويًا في محرابه.
إن الرسالة المحمدية لم تكن قط مجرد تعبد فردي أو صلاح شخصي، بل كانت منهجًا شاملاً للإصلاح والتغيير، يبدأ من القلب وينتشر إلى المجتمع، ويمتد من الفرد إلى الأمة.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يتألم لألم الناس، ويضحي بوقته وجهده وراحته من أجل هدايتهم وإصلاح أحوالهم.
كان يمشي بين الناس، يسأل عن أحوالهم، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، يقف مع المظلوم، وينصر الضعيف، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهنا تكمن المفارقة العجيبة: فبينما نحفظ أدق تفاصيل سننه في الطعام والشراب واللباس والنوم، نغفل عن سنته العظيمة في الإصلاح والدعوة والتغيير.
نهتم بسنن الوضوء والصلاة – وهي عظيمة بلا شك – لكننا نتجاهل سنته في التفاعل الإيجابي مع المجتمع، وفي تحمل مسؤولية إصلاح ما فسد، وفي عدم الركون إلى السلبية واللامبالاة.
قد أمرضتنا الحضارة الزائفة – بما تحمله من قيم مادية جوفاء ومفاهيم مغلوطة – بمرض السلبية والأنانية المُقنَّعة، تحت شعار براق يُسمى “احترام الخصوصية”.
فأصبحنا نتذرع بهذا الشعار للتهرب من مسؤولياتنا الاجتماعية والدينية، ونبرر به صمتنا عن الحق، وسكوتنا عن الباطل، وتقاعسنا عن الإصلاح.
لقد خدعتنا هذه الحضارة المعاصرة بمفاهيمها الملتوية، فجعلتنا نظن أن التدخل الإيجابي في شؤون الآخرين “تطفل”، وأن النصح والإرشاد “تسلط”، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “انتهاك للحرية الشخصية”.
وهكذا تحولت القيم الإسلامية النبيلة – التي تدعو إلى التكافل والتناصح والإصلاح – إلى “عيوب” يجب التخلص منها، بينما تحولت الأنانية واللامبالاة إلى “فضائل” يُحتذى بها.
وبالتالي، كدنا نحن المسلمين أن نفقد أهم ما يميزنا عن غيرنا من الأمم، وهو الإيجابية الفعالة… والإصلاح المستمر… والحرص على خير الناس جميعًا، متمثلين في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي هي – في حقيقتها – فريضة الإصلاح والتغيير الإيجابي.
إن هذه الفريضة العظيمة ليست مجرد أمر ونهي بارد، بل هي منهج حياة متكامل، يقوم على الحب والرحمة والحرص على الآخرين. إنها تعبير عن الإيمان الحي الذي لا يقبل أن يرى الخطأ دون تصحيح، أو الضلال دون هداية، أو الظلم دون مقاومة. إنها ترجمة عملية لمعنى الأخوة الإيمانية، التي تجعل المؤمن يحرص على أخيه كما يحرص على نفسه، بل ربما أكثر.
لكن ما يحدث اليوم أننا مازلنا نتراجع عن هذا الدور الحضاري العظيم، ونكتفي بالصلاح الفردي، ظنًا منا أن ذلك يكفي. أصبحنا نقول: “كل واحد وشأنه”، و”المهم إني صالح”، و”ليس من شأني ما يفعله الآخرون”.
وهكذا تحولنا من أمة “خرجت للناس” لتهديهم وتصلحهم، إلى مجموعة من الأفراد المنعزلين، كل منهم يعيش في فقاعته الخاصة، غير مكترث بما يحدث حوله.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في انتشار المنكرات والفساد – رغم خطورة ذلك – بل يكمن في صمت الصالحين وسلبية المؤمنين.
عندما يصمت أهل الخير، ويتقاعس أهل الإصلاح، وينزوي أهل العلم والحكمة، فإن الباطل يملأ الساحة، والظلم يسود، والفساد ينتشر دون رادع أو زاجر.
والمؤسف أن بعضنا يظن أنه بصمته وسلبيته يحقق “التوازن” و”الاعتدال”، بينما الحقيقة أنه يساهم – شاء أم أبى – في انتصار الباطل على الحق.
فالصمت عن الظلم ظلم، والسكوت عن المنكر منكر، واللامبالاة تجاه الفساد هو أعظم الفساد. إن علينا أن نستعيد روح رسالة الإسلام الحقيقية، تلك الروح التي لا تعرف السلبية ولا تقبل بالجمود.
علينا أن نفهم أن الإسلام ليس مجرد شعائر تُؤدى في أوقاتها، بل منهج حياة شامل، يتطلب منا أن نكون فعالين ومؤثرين في مجتمعاتنا، نسعى لإصلاح ما فسد، ونقاوم الظلم والفساد بكل الوسائل المشروعة.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد واجب ديني، بل ضرورة حضارية، وحاجة اجتماعية، ومسؤولية إنسانية.
هو الذي يحفظ للمجتمع توازنه، ويحميه من الانحراف، ويضمن استمراريته على الطريق القويم. وعندما تُهمل هذه الفريضة، أو تُحاصر تحت شعارات براقة، فإن المجتمع يفقد مناعته الطبيعية ضد الفساد والانحلال. لذلك، فإن العودة إلى سنة الإصلاح والإيجابية هي واجبنا كمسلمين نمثل شموعًا تضيء للناس طريقهم، ومصلحين يسعون لخير البشرية جمعاء، لا منعزلين في أبراجهم العاجية.
إن الطريق طويل، والتحديات كبيرة، لكن الهدف نبيل، والغاية عظيمة، والأجر عند الله جزيل. فلنبدأ من أنفسنا، ولنمد أيدينا لإصلاح من حولنا، ولنكن كما أراد لنا ديننا: خير أمة أخرجت للناس. #إلى_الله_تأملات_وخواطر
Source link