دعاء الوالدين توفيق! – فيصل بن علي البعداني

وحريّ بكل ابن وبكل ابنة أن يلتمسوا الدعاء من والديهم ما زالوا أحياء، فإن دعاءهم من أعظم أبواب الخير وطريق السعادة والصلاح والتوفيق.

فتحت اليوتيوب فإذا بقاص كريم يتحدث عن قصة شاب نشأ يتيمًا، ولم يكن لوالدته التي رزقَتْ به على كِبَر غيره، فأخذ من سنّ التمييز يكد ويسعى في الأسواق خدمةً وبيعًا، علّه يأتي في نهاية كل يوم له ولأمه بما يتيسر من طعام وشراب.
واستمر هذا حاله حتى بلغ سن العشرين، وحينها ازداد بأمه المرض، وقبل أن تخرج الروح إلى باريها دعت له بدعوات خالصات بالتيسير والقبول وسعة الرزق، فكان من عقب دعوة أمه لا يدخل في صفقة إلا وربح فيها أرباحًا مضاعفة فوق ما يربح الناس.

فقلت: لعل تلك حالة خاصة، وكرامة لتلك المرأة المسكينة، فتأملت في دعاء السلف لأولادهم، فرأيت الفضيل بن عياض بعد أن بذل وسعه في صلاح ولده عليٍّ فأعياه، لجأ إلى ربه وألح في سؤاله حتى صار دعاؤه: (اللهم إني اجتهدت أن أؤدب عليًّا، فلم أقدر على تأديبه، فأدبه أنت لي)، فاستجاب الله له، حتى صار عليٌّ رأسًا في العبادة والزهد والإقبال على الله تعالى، حتى إنه مات باكيًا وهو يستمع القرآن، ولذا كان من الناس من يفضّل عليَّ بن الفضيل على أبيه، على جلالة قدر أبيه وعلوّ كعبه في هذا الباب.

ورأيت في تاريخ دمشق أن امرأة جاءت إلى بقيّ بن مخلد فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة، ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء، فإنه ليس لي ليل ولا نهار ولا نوم ولا قرار. فقال: نعم، انصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله. قال: وأطرق الشيخ وحرك شفتيه. قال: فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، فأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالمًا وله حديث يحدثك به. فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسرى، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم؛ يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينا نحن نجيء من العمل مع صاحبه الذي كان يحفظنا، فانفتح القيد من رجلي ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت المرأة ودعا الشيخ. فنهض إليّ الذي كان يحفظني وصاح عليّ وقال: كسرت القيد! فقلت: لا، إلا أنه سقط من رجلي. قال: فتحيّر وأخبر صاحبه، وأحضر الحداد فقيدوني، فلما مشيت خطوات سقط القيد من رجلي. فتحيروا في أمري، فدعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت: نعم. فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله، فلا يمكننا تقييدك. فزوّدوني وأصحبوني إلى ناحية المسلمين.
فقلت: لأعود إلى نصوص الوحي لأرى مدى حضور دعوة الوالدين لأولادهما فيهما، فرأيت إبراهيم الخليل يدعو: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، ويناجي: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}، ويدعو: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}.

 ورأيته وابنه إسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت يدعوان: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وكما دعا لهم بالصلاح والهدى وخير الآخرة، دعا لهم بصلاح أحوالهم في الدنيا، فقال متضرعًا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.

ورأيت نبي الله زكريا عليه السلام يناجي ربه: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}، ويناديه: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.

ورأيت امرأة عمران، حيث وضعت أنثى -سمتها مريم– تقول راجية ربها: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
ورأيت أن من أدعية المؤمنين: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}. قال المفسرون: أي أبرارًا أتقياء، فليس شيء أقرّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله تعالى.
ورأيت من وصايا القرآن للعبد الصالح أن يقول: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}. قال الزجاج: معناه: اجعل ذريتي صالحين.
ورأيت حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله ﷺ يعوّذ حسنًا وحسينًا: «أعيذكما بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة». وكان يقول ﷺ: «كان أبوكما يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق». 
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يرى رسول الله ﷺ يعوّذ بالمعوذتين الحسن والحسين.
 ورأته ﷺ يضع كفيه الكريمتين بين كتفي ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو طفل صغير، فقال: «اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التأويل». وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ضمني رسول الله ﷺ إليه، وقال: «اللهم علّمه الحكمة وتأويل الكتاب».
وكان من دعائه ﷺ ربه: «وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا».
بل ووجدته ﷺ يحث الوالدين على الدعاء لأولادهم، فيقول ﷺ: «ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر» (رواه الطبراني وحسنه الألباني). 

وفي توجيه ذلك يقول ابن الملك: لأن الوالد لا يدعو له إلا على نعت الشفقة والرقّة التامة، وكذا دعوته عليه؛ لأنه لا يدعو عليه إلا على نعت المبالغة من إساءته إليه، ويقاس عليه دعوة الوالدة.

 وقال ابن عثيمين: الأصح دعوة الوالد لولده أو عليه مستجابة. أما دعوته لولده فلأنه يدعو لولده شفقة ورحمة، والراحمون يرحمهم الله عز وجل. وأما عليه، فإنه لا يمكن أن يدعو على ولده إلا باستحقاق، فإذا دعا عليه وهو مستحق لها استجاب الله دعوته.
وينهاهم ﷺ عن الدعاء عليهم، فيقول: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم».
وحثّ السلف الوالدين على الدعاء بالخير لأولادهم ونهيهما عن الدعاء عليهم بالضد لا يكاد يُحصَر. فهذا مجاهد يقول: (دعوة الوالد لا تُحجب عن الله عز وجل). 
وهذا الحسن البصري يقول: (دعاء الوالدين يثبت المال والولد). 

وقال حزم بن مهران: سمعت رجلًا سأل الحسن فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في دعاء الوالد لولده؟ قال: «نجاة» ـ وقال بيده هكذا كأنه يرفع شيئًا من الأرض ـ. قال: فما دعاؤه عليه؟ قال: «استئصال» ـ وقال بيده كأنه يخفض شيئًا.
وجاء رجل إلى ابن المبارك يشكو إليه عقوق ولده، فقال له: هل دعوت عليه أم لا؟ فأجاب بأنه قد دعا عليه، فقال: أنت أفسدته بالدعاء عليه.
وشكا أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}.
وفي طبقات الشافعية لابن السبكي: (فدعاء الوالد أعظم ذخرا وعدة في الآخرة والأولى).
فحريّ بعد كل هذا الهدي المبارك والتوجيه الشافي بكل أب وبكل أم أن يلازما الدعاء لأولادهما بالهدى والتقى والغنى والرضا، وصلاح الحال في الدنيا، والفلاح في الآخرة، ويتحرَّيا الأحوال والأوقات الفاضلة، فإن ذلك من أنجع السبل الموصلة للأبناء والبنات إلى دروب التوفيق والهداية وحسن الحال والمآل. 

وفي تقرير ذلك يقول القرطبي: (فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه. ألا ترى قول زكريا: {واجعله رب رضيا}، وقال: {ذرية طيبة}، وقال: {هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}. ودعا رسول الله ﷺ لأنس فقال: {اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه}. (خرّجه البخاري ومسلم، وحسبك).

 وفي موضع آخر قال: (وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده ونجاته في أولاه وأخراه، اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء الأولياء).

وحريّ بكل ابن وبكل ابنة أن يلتمسوا الدعاء من والديهم ما زالوا أحياء، فإن دعاءهم من أعظم أبواب الخير وطريق السعادة والصلاح والتوفيق. فهذا إياس بن معاوية لما ماتت أمه أخذ يبكي، فقيل له: ما يبكيك، يا أبا واثلة؟ قال: كان لي بابان مفتوحان من الجنة فأُغْلِق أحدهما.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح لنا أنفسنا وذرياتنا، وأن يجعلهم قرة عين لنا، وأن يُسبغ عليهم خيره ورضاه وبره، وأن يجعلهم هداة مهتدين، إنه جواد كريم.
والله الهادي.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

ظلم اليهود والنصارى لأنفسهم – محمد بن علي بن جميل المطري

لا شك أن العاقل من أهل الكتاب إن سمع هذا فلن يقر له قرار حتى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *