أن يترك العمل! – فيصل بن علي البعداني

منذ حوالي ساعة

الدعوة ليست منبرًا حتى يُترك، بل أمانةٌ تُحمل، وميدانها ما وسع المرءَ فيه التبيينُ والبلاغُ، بأي وسيلةٍ كانت.

سألته، وهو من أهل الميدان الدعوي، وممن قاد المشهد داعيةً مربّيًا وخطيبًا مؤثرًا: ما أعظم ما قد يُصاب به الداعية إلى الله تعالى؟
فقال بلا تردد: أن يترك العمل، وأن يفارق الساحة وهو يظن أنه ما زال يقود الدعوة، مستصحبًا ماضيه، معتقدًا أن حاضره امتدادٌ له، مع أن ليلى – كما في المثل – لا تُقرّ له بذلك.

فقلت له: صدقتَ، فإني لا أعرف بلاءً أعظم على الداعية من أن ينقطع وهو لا يشعر، بل قد يظن أنه ما يزال قائمًا بالواجب، مع أنه في الحقيقة قد غادر ساحته وقل اهتمامه بها.

ولقد رأيت من الدعاة رجالًا كانت ميادين الدعوة تضج بأصواتهم، وعقول الشباب تنهل من علمهم، وقلوب الناس تحيا بوعظهم وتذكيرهم، لا يعرفون للراحة سبيلاً، ولا لأنفسهم نصيبًا من فراغ.
ثم دارت الأيام، وضاقت أوطانهم بالفتن والمحن، وابتُلوا بالتشريد والاغتراب، فانشغل أكثرهم بترتيب شأن المعاش وتدبير أحوال الأهل، وغلبهم همّ تحصيل خير الدنيا على همّ بث الخير ونشر الدعوة.

فتبدلت بهم الأحوال، وانحسر أثرهم، وانقلبت أولوياتهم، وقلّ تواصلهم بالناس والدعاة في مناطقهم، ومع ذلك لا يزال أحدهم يرى نفسه «الداعية الأول» و«القائد الملهم»، بينما واقع الدعوة لا يقر له بذلك، إذ لا أثر يصدّق هذا التوهم.

ولو أن هؤلاء، لما اضطرتهم الظروف إلى الرحيل، نظروا إلى الأمر نظر الراشدين، فانتقلوا إلى مرحلة جديدة من الدعوة تناسب حالهم — مرحلة التوجيه عن بُعد، والرعاية والتدريب للمربين، والدعم لمن بقي في الميدان، والإسهام بالفكر والمال والخبرة — لما انقطع العمل ولا خلت الساحات.

لكن ما جرى هو أن كثيرًا من هؤلاء المصلحين قد تركوا الميدان بلا تفكيرٍ فيمن يسده بعدهم، فحدث الفراغ،  وقل العطاء، وسرى الجهل، ووجدت البدعة طريقها، وتسللت الأفكار المنحرفة إلى العقول، وغرق جيلٌ كامل في أمواجٍ متلاطمة من الشهوات والشبهات.

ومن تأمّل رأى أن هذه الحال قد تكررت في غير بلد: في العراق بعد الاحتلال، وفي اليمن والسودان بعد الحروب والاضطرابات، وفي كل موضع تُفارَق فيه ميادين الدعوة دون أن يُخلَف فيها من يحمل لواءها.

فواجب الدعاة اليوم أن يستيقظوا  فيعنوا بحل هذا الإشكال العظيم، وأن يعوا أن الدعوة ليست مرتبطةً بزمانٍ ولا مكانٍ، ولا بوضعٍ ولا حالٍ، ولا تنقطع ما دام في القلب صدق وإخلاصٌ، وفي اليد وسيلة، وفي النفس شعور بالمسؤولية،
وأن الدعوة ليست منبرًا حتى يُترك، بل أمانةٌ تُحمل، وميدانها ما وسع المرءَ فيه التبيينُ والبلاغُ، بأي وسيلةٍ كانت.

فمن لم يعد قادرًا على الوقوف في الصفوف الأولى، فليقف ساندًا، موجّهًا، مرشدًا، ناصحًا، مساعدًا من بقي مرابطًا على الثغر بقدر وسعه.

وخِتامًا: فدين الله محفوظ، والدعوة لا تموت، ولكن أهلها قد يغفلون أو يبدّلون من غير أن يشعروا.

فاللهم احفظ الدعاة، وأعِد لهم همّتهم في الدعوة إليك، وألهمهم البصيرة بزمانهم، ووفقهم لسدّ الثغور وإصلاح الخلل، برحمتك ومنّك يا أكرم الأكرمين.

والله الهادي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} – عصام البشير

يقول تعالى لنبيه ـﷺـ {‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} ‏‏ أي‏:‏ بالغ في جهادهم والغلظة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *