من درر العلامة ابن القيم عن الزهد – فهد بن عبد العزيز الشويرخ

الزهد من المواضيع التي بحثها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله  الكريم أن ينفع بها الجميع.

                      

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد: فالزهد من المواضيع التي بحثها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله  الكريم أن ينفع بها الجميع.                    

                          

                           [طريق الهجرتين وباب السعادتين]

الزهد على ثلاثة أقسام:

 أحدها: فرض على كل مسلم, وهو الزهد في الحرام.

الثاني: زهد مستحب, وهو على درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه, وهو الزهد في المكروه وفضول المباح والتفنن في الشهوات المباحة.

الثالث: زهد..المشمّرون في السير إلى الله.

الزهد في الدنيا…ليس المراد تخليتها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفراً منها, وإنما إخراجها من قلبه بالكلية, فلا يلتفت إليها, ولا يدعها تُساكن قلبه وإن كانت في يده, فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك, وهي في قلبك, وإنما الزهد أن تتركها من قلبك, وهي في يدك, وهذا كحال الخلفاء الراشدين, وعمر بن عبدالعزيز الذي يضرب بزهد المثل, مع أن خزائن الأموال تحت يده, بل كحال سيد ولد ابن آدم صلى الله عليه وسلم حين فُتح عليه من الدنيا ما فُتِحَ, ولا يزيده ذلك إلا زهداً فيها.

  • الذي يعين العبد على الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء:

أحدها: علم العبد أنها ظل زائل, وخيال زائر, وأنها كما قال تعالى فيها: {﴿ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِب وَلَهۡو وَزِينَة وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُر فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًا ﴾} [الحديد:20]

وقال تعالى: {﴿ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمًا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ مُّقۡتَدِرًا﴾}   [الكهف:45]

سماها سبحانه متاع الغرور, ونهى عن الاغترار بها, وأخبر عن سوء عاقبة المغترين بها, وحذرنا مثل مصارعهم, وذم من رضي بها واطمأن إليها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «مالي وللدنيا ! إنما أنا كراكبٍ قال في ظل شجرةٍ ثم راح وتركها» ))

فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همّة دنية, وعقل حقير, وقدر خسيس!

الثاني: علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجلّ خطراً, وهي دار البقاء, وأن نسبتها إليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخل أحدكم إصبعه في اليم, فلينظر بم ترجع؟ )) فالزاهد فيها لكمال بمنزلة رجل في يده درهم زغل قيل له: اطرحه ولك عوضه مائة ألف دينار مثلاً, فألقاه من يده رجاء ذلك العوض, فالزاهد فيها لكمال رغبته فيما هو أعظم زّهِدَ فيها.

الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً مما كُتِبَ له منها, وأن حرصه عليها لا يجلُب له ما لم يُقضَ له منها فمتى تيقن ذلك وصار له علم اليقين هان عليه الزهد فيها.  فهذه الأمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها, وتُثبت قدمه في مقامه.

الزاهد يُسهِّل عليه الزهد في الحرام: سوءُ مغبته, وقبحُ ثمرته, وحمايةً لدينه, وصيانة لإيمانه, وإيثاراً للذة والنعيم على العذاب, وأنفةً من مشاركة الفساق والفجرة, وحمية من أن يستأسر لعدوه, ويسهِّل عليه الزهد في المكروهات وفضول المباحات علمُه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم, ويسهل عليه زهده في الدنيا معرفته بما وراءها وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأعلى, وأما الزهد في النفس فهو ذبحها بغير سكين, وهو نوعان:

أحدهما وسيلة وبداية: وهو أن تميتها, فلا تُبقى لها عندك من القدر شيئاً, فلا تغضب لها, ولا ترضى لها, ولا تنتصر لها, ولا تنتقم لها, قد سبَّلت عِرضها ليوم فقرها وفاقتها, فهي أهون عليك من أن تنتصر لها, أو تنتقم لها, أو تجيبها إذا دعتك, أو تكرمها إذا عصتك, أو تغضب لها إذا ذُمَّت, بل هي عندك أخسّ مما قيل فيها, أو ترفهها عما فيه حظك وفلاحك وإن كان صعباً عليها. 

وهذا وإن كان ذبحاً لها وإماتةً عن طباعها وأخلاقها, فهو عين حياتها وصحتها, ولا حياة لها بدون هذا البتة, وهذه العقبة هي آخر عقبة يُشرف منها على منازل المقربين, وينحدر منها إلى دار البقاء, ويشرب من عين الحياة, وتخلص روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات, وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق.

النوع الثاني: غاية وكمال وهو أن تبذلها للمحبوب جملةً بحيث لا تستبقي منها شيئاً بل تزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله, قد تعلقت رغبةُ محبوبه به, فهل يجد من قلبه رغبةً في إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟ فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه فهو يبذلها له دائماً يتعرض منه لقبولها

                        [مدارج السالكين في منازل السائرين]

القرآن مملوء من التزهيد في الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها, والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها وسرعة إقبالها. فإذا أراد الله بعبده خيراً أقام في قلبه شاهداً يعاين حقيقة الدنيا والآخرة, ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار.

قال الجنيد: سمعت سرياً يقول: إن الله تعالى سلب الدنيا عن أوليائه, وحماها عن أصفيائه, وأخرجها من قلوب أهل وداده لأنه لم يرضيها لهم.

الزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود, ولا يأسف منها على مفقود.

وقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام وهو زهد العوام والثاني: ترك الفضول من الحلال, وهو زهد الخواص. والثالث: ترك ما يشغل عن الله, وهو زهد العارفين

وهذا الكلام من الإمام أحمد…من أجمع الكلام, وهو يدل على أنه رضي الله عنه من هذا العلم بالمحل الأعلى, وقد شهد له الشافعي رحمه الله بإمامته في ثمانية أشياء  أحدها الزُّهد. والذي أجمع عليه العارفون أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذُه في منازل الآخرة, وعلى هذا صنف المتقدمون كتب الزهد كـ ” الزهد ” لعبدالله بن المبارك, وللإمام أحمد, ولوكيع, ولهناد بن السري, ولغيرهم. 

ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ” ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال, ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك, وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك”

فهذا من أجمع كلامٍ في الزهد وأحسنه, وقد روي مرفوعاً.

  • الزهد في الدنيا لقلة وفائها وخسة شركائها:

الفساق يزدحمون على مواضع الرغبة في الدنيا ولتلك المواقف كظيظ من الزحام, فالزاهد يأنف من مشاركتهم في تلك المواقف ويرفع نفسه عنها لخسة شركائه فيها كما قيل لبعضهم ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال: قلة وفائها, وكثرة جفائها.

                      [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح]

  • الزهد في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة

  ومفتاح الرغبة في الآخرة: الزهد في الدنيا                                  

                          [عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين]

سئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهداً؟ قال: نعم, بشرط أن لا يفرح إذا زادت, ولا يحزن إذا نقصت.

وسمعت شيخ الإسلام يقول: الزهد تركك ما لا ينفعك, والورع تركك ما قد يضرك.

فالزهد فراغ القلب من الدنيا, لا فراغ اليد منها.

  • الزاهد أروح الناس بدنًا وقلبًا:

الزاهد أروح الناس بدناً وقلباً, فإن كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له في إرادة الله والدار الآخرة_ بحيث فرغ قلبه لله وجعل حرصه على التقرب إليه, وشحه على وقته أن يضيع منه شيء في غير ما هو أرضى لله وأحب إليه –  كان من أنعم الناس عيشاً وأقرهم عيناً, وأطيبهم نفساً, وأفرحهم قلباً, فإن الرغبة في الدنيا تشتت القلب وتبدد الشمل, وتطيل الهم والغم والحزن, فهي عذاب حاضر يؤدي إلى عذاب منتظر أشد منه, وتفوت على العبد من النعم أضعاف ما يروم تحصيله بالرغبة في الدنيا.

ــــــــــــــــــــــ

                                    [الفوائد]

أفضل الزهد إخفاء الزهد.

                      كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

تقسيم الأعمال والمشاريع – طريق الإسلام

والإنجازات الصغيرة إذا تكررت دفعت صاحبها إلى الالتزام بالخطة أكثر، فإن للإنجاز لذة توقد الحماسة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *