ماذا إذا انتكست الفطرة ؟……
السورة تبين عظم قدرة الله تعالى وكمال خلقه الذى يظهر فى كل ما تنبت الأرض من دلائل على قدرة الله ومن خلال النظر فى خلق الإنسان وما فطره الله عليه ومدى ملاءمته لمنهج الله وأنه كلما بعد عن المنهج يحط من نفسه أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة السوية والعقيدة الصحيحة وفيه إثبات الجزاء وتقرير المعاد وبيان أن القادر على خلق الإنسان فى المبدأ على أحسن صورة وهو القادر على أن يعيده للجزاء يوم القيامة
يقول المراغى : مناسبتها لما قبلها – أنه ذكر في السورة السابقة حال أكمل خلق الله ﷺ، وذكر هنا حال النوع الإنساني وما ينتهى إليه أمره، وما أعد سبحانه لمن آمن برسوله.”
وعلاقة السورة بما قبلها فقد جاء فى سورة الشرح ما أنعم الله به على النبى من نعم وبيان ما ينبغى عليه صلى الله عليه وسلم تجاه هذه النعم من الشكر عليها وإطعام الطعام لوجه الله ثم تأتى سورة التين لتذكر الإنسان بعظمة الخالق وأنه سواه فى أحسن خلقة فعليه أن يكد ويتعب فى هذه الحياة لشكر المنعم ويعمل ليوم الحساب
{{وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ}} (1)
أقسم المولى عزوجل بالتين النبات الذى يؤكل والزيتون الذى يعصرون منه الزيت لما لهم من فوائد كثيرة ومنافع عديدة
يقول البقاعى : ” فإن التين يجمع بين التفكهه والتداوى وهو ينتفع به رطبا ويابساً وهو كالفطرة الأولى فى سهولة الاصلاح والتغيير ومن منافع التين كدواء للرئة والكلى ويلين الطبع ويفيد فى علاج الكبد والطحال ويحلل البلغم ويزيل رمل المثانة ” كما يفيد زيت الزيتون فى تنعيم البشرة والشعر وتقوية العظم
{“وطور سنين “}
وأقسم المولى عزوجل بجبل الطور الذى كلمه عنده موسى عليه السلام وسنين إشارة إلى سيناء الصحراء بين مصر وفلسطين
يقول البقاعى : ” لخلوه وحسنه وعلوه جمع الخاطر للمتفرد وطمأنينة النفس للتخلي للعبادة والتحصن مما يخشى لعلوه وصعوبته “
{“وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ” (3)} يعني : مكة . قاله ابن عباس
جاء في (التبيان في أقسام القرآن) : “فأقسم سبحانه بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله، أصحاب الشرائع العظام والأمم الكثيرة. فالتين والزيتون المراد به نفس الشجرتين المعروفتين ومنبتهما وهو أرض بيت المقدس … وهو مظهر عبد الله ورسوله وكلمته وروحه عيسى بن مريم. كما أن طور سينين مظهر عبده ورسوله وكليمه موسى، فإنه الجبل الذي كلمه عليه وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه. ثم أقسم بالبلد الأمين وهو مكة مظهر خاتم أنبيائه ورسله سيد ولد آدم. وترقى في هذا القسم من الفاضل إلى الأفضل، فبدأ بموضع مظهر المسيح، ثم ثنى بموضع مظهر الكليم، ثم ختمه بموضع مظهر عبده ورسوله وأكرم الخلق عليه. ونظير هذا بعينه من التوراة التي أنزلها الله على كليمه موسى:
فالغرض منها فى النهاية بينا شرف هذه الأماكن وما ظهر منها من خير وبركة ببعثة الأنبياء
قال تعالى :” { لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰانَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيم” (4)} إذا تأملنا قى هذه الآية نجد أن الله عزوجل أسند الخلق إلى نفسه ولم يَبْنِه للمجهول، ليبين أنه وحده خالق الإنسان وهو العالم بما يصلحه وما هو أنسب له وإنه لمقام تفضل على الإنسان وبيان عظيم قدرة الله تذكرة له بنعمة الخلق من عدم والتسوية فى أحسن صورة
والمتأمل فى خلق الإنسان ومدى دقة تكوينه الجسمانى واعتداله وتكريم الله له بالعقل عن باقى المخلوقات وطبيعة النفس البشرية وأغوارها ليدرك أن هذا المخلوق له شأن عند الله ووزن فهو خليفة الله فى الأرض خلق ليعمرها ويصلحها
{{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ}} (5) التعبير ب (ثم) يفيد الترتيب والتراخي
يقول الألوسى :ثم جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح وأسفل من كل سافل خلقًا وتركيبًا لعدم جريه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات “
وهذا يدل على أن الإنسان فى تركيبه هُيأ لأن يبلغ مبلغ الملائكة فى الرفعة والعلو إذا زكى نفسه واستقام على شرع الله فإذا ارتكس وانتكست الفطرة انحدرت به فطرته إلى الدرك الأسفل وينحط عن البهائم وهذا يدل على عظمة خلق الله أن يكون فى مخلوق واحد النقيضين كل منهم على حسب مدى استجابته لطاعة الله وسيره على منهج الحق فإذا أبى إلا تلويث الفطرة والبعد عن طاعة الله فإنه يرى أثر ذلك فى حياته من غم وهم ومعيشة ضنكا كما بينت لنا الآيات “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ” طه
وفى قوله { “إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ” (6) } هذا استثناء يدل على قيمة الإيمان والعمل الصالح فى حياة الإنسان وأنه طريق النجاة والرفعة وأنه المانع للإنسان من أن يرد إلى أسفل سافلين
وعن حقيقة الإيمان يتحدث سيد قطب ” تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان . . إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها . إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها . إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطأها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين . وحين ينقطع هذا الحبل ، وحين ينطفئ هذا النور ، فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين ، والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية ، حين يتمحض الطين في الكائن البشري ، فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء
وما الفرق بين الاستثناء فى هذه السورة وسورة العصر ؟
جاء في (التبيان فى أقسام القرآن ) : “وتأمل حكمة القرآن لما قال: { {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} } [العصر: ٢] فإنه ضَيَّقَ الاستثناء وخصصه فقال: {{إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} } [العصر: ٣] ولما قال: {{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}} وَسَّعَ الاستثناء وعَمَّمهُ فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} ولم يقل: (وتواصوا) فإن التواصي هو أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدر زائد على مجرد فعله. فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح فصار في خسر، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين. فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة وقد تكون فرضاً على الأعيان. وقد تكون فرضاً على الكفاية وقد تكون مستحبة.
{“فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ”}
يقول ابن عاشور والممنون : الذي يُمنّ على المأجُور به ، وهو من المن الذى يكدر النفس وهو أيضا مأخوذ من الحبل الذى انقطع فهو منين ” والمعنى أنهم لهم أجر لا يشوبه كدر ودائم لا ينقطع ، وهو تعبير يفيد الكثرة والعموم والسعة
{{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّينِ}} (7) هذا استفهام توبيخى للمكذب بيوم الحساب والبعث
والمعنى فمن يكذبك يا محمد فيما تخبر به عن يوم البعث وقد علم أن من يقدر على الإنشاء والخلق من عدم قادر على البعث بعد الموت والحكمة من الحديث عن اليوم الآخر بعد الحديث عن الأجر العظيم فالتذكرة بيوم الحساب يدفع الإنسان للعمل الصالح
“ {ألَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) } ” يقول الطبرى : أليس الله يا محمد بأحكم من حكم في أحكامه، وفصل قضائه بين عباده؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ذلك فيما بلغنا قال: بَلى.
سبحانه يعطى لحكمة ويمنع لحكمة ولكن أكثر الناس لا يعلمون
Source link