كان متوسط دخل الفرد السنغالي منتصف الثمانينات لا يتجاوز 550 دولاراً أميركياً، وبحثاً عن حياة أفضل قرر كوليبالي الكبير الهجرة إلى باريس بشكل غير شرعي وعمل في مصنع أقمشة لمدة 5 أعوام كاملة دون إجازة أسبوعية، ومن ثم أصبح حطاباً، من أجل أن يجلب زوجته إلى فرنسا، وفي العام 1991 رزق بمولود، فتح القرآن واختار له اسم خالد، أو كاليدو كما ينطق على الطريقة الإفريقية.
وأصبح خالد أو كاليدو لاعباً جديداً للهلال السعودي لمدة ثلاث سنوات بعدما اشترى الأخير عقده من تشيلسي اللندني.
نشأ خالد في سان دي شرقي فرنسا، كان محاطاً بأبناء المهاجرين من مختلف الجنسيات، عرب، أفارقة، أتراك وحتى فرنسيين، وعن ذلك يقول: الحي الذي نشأت به كان مترابطاً بشكل لا يمكن وصفه، عندما تطلب منك والدتك أن تذهب إلى المتجر لابتياع الحاجيات فأنت لا تفعل، فقط تطرق الباب على جارك وتأخذ ما تريد منه.
وأتبع: كان لدى صديقي محمد جهاز ألعاب فيديو “بلايستيشن” وأحياناً أذهب بحثاً عنه فتقول لي والدته إنه غير موجود، لكن بإمكاني الدخول إلى المنزل ولعب ألعاب الفيديو، لم يكن هناك أبواب موصدة في ذلك الحي والكل مترابط، فعندما تذهب إلى الحديقة فأنت لا تسلم على أم واحدة بل جميع المتواجدات في ذلك المكان حينها.
يتذكر كوليبالي زيارته الأولى إلى السنغال عندما كان بعمر 6 أعوام، كان مرتاباً وخائفاً، فهو يشاهد الجزء الآخر من العالم والذي لم يعهده قط، وعن تلك الرحلة تقول والدته: شاهد كاليدو الأطفال يلعبون كرة القدم في السنغال بلا أحذية، كان يتوسل إلي كي نذهب إلى المتجر ونبتاع لكل طفل حذاء، قلت له: اخلع نعليك والعب مثلهم، وفعلت ذلك، هنا أصبحت مهووساً بكرة القدم، وعندما عدت إلى فرنسا كنت لا أنفك عن خوض المباريات وأنا صغير، حتى أن والدتي كانت تخرج للصراخ علي تطالبني بالعودة إلى المنزل.
كانت السنغال دولة مغمورة نوعاً على خريطة كرة القدم العالمية، فالمنتخب لم يصل إلى كأس العالم ولم يحقق البطولة الإفريقية، وعندما بلغ كاليدو 11 عاماً وجه أنظاره والمليارات معه نحو شرق آسيا لمشاهدة مونديال 2002، وبعد 90 دقيقة من نهاية حفل الافتتاح حدثت واحدة من أكبر مفاجآت الكأس عبر تاريخها، القادمون من غرب إفريقيا يهزمون فرنسا بطلة العالم، وهنا أصبح كوليبالي يخوض كأس العالم الخاصة به قبل أن يتسمر أمام شاشة التلفاز لمشاهدة منتخب بلاده يلعب.
كان حينها كاليدو في المدرسة، خرج في الشارع ومعه أقرانه السنغاليون يسيرون بزهو، والجميع يبارك لهم، عرف لاعب تشيلسي السابق أهمية كرة القدم في الحياة عندما رأى الآباء السنغاليين في الحي يرقصون فرحاً بهدف بابا ديوب، ويقول: فجأة أصبح العالم يعرف السنغال، بت أسمع أسماء فاديغا، ديوف، ديوب، كمارا من الأطفال الآخرين.
يقول المدافع العملاق: أصبحنا نلعب داخل الحي مباريات دولية مصغرة قبل كل مباراة حقيقة في كأس العالم، هناك فريق التوانسة وآخر للأتراك وهناك السنغاليون، قبل مباراة ربع النهائي بين تركيا والسنغال لعبنا أمام أصدقائنا الأتراك وخسرنا. لا يمكن لأي شخص يشاهد ذلك أن يصدق ما حدث، كنا نبكي بشدة وكأننا عرفنا ما سيحدث بعد قليل، هرعنا بسرعة إلى منازلنا قبل المباراة ودعونا الله أن ينصر السنغال، أتذكر كذلك أنني وضعت علم السنغال الكبير على سجادة الصلاة طلباً للتوفيق، لكن خسرت السنغال بالهدف الذهبي، هنا بكينا بشدة، لكن جمال الحي الذي كنا نعيش فيه، أن الألم والحزن ينتهي بسرعة، ومباشرة تحولنا إلى مشجعين لتركيا التي حصلت على المركز الثالث وذلك من أجل الأصدقاء الأتراك.
بعد تلك الأفراح والأحزان بعام بلغ كاليدو عمر الـ12 وانتهت رحلته مع نادي سان دي وانتقل إلى متز والتي تبعد عن منزله قرابة ساعة ونصف بالسيارة، قضى 3 أعوام هناك وعاد إلى سان دي مجدداً، وفي 2009 عاد إلى متز وبعد عام واحد وقع عقده الاحترافي الأول.
دخل كوليبالي في 20 أغسطس 2010 كبديل في مباراة فانس والتي كانت منقولة تلفزيونياً، انتهت المباراة وهرع إلى هاتفه ليتصل بوالدته يسألها إذا كانت قد شاهدت المواجهة وإذا كانت سعيدة بمشاهدة ابنها على الشاشة، ردت الأم: سعيدة؟ لماذا؟ أنت دائماً تلعب كرة القدم وهذا أمر طبيعي لأنك تحبها، الذي اختلف فقط أنك أصبحت تظهر على شاشة التلفاز.. حسناً إنه أمر جيد. يضحك كوليبالي ويقول: والدي حضر إلى الملعب مرة واحدة لمشاهدتي أما والدتي فلم تفعل أبداً، ودائماً ما كنت أقول إذا لم يحضرا إلى الملعب، سأحضر الملعب إليهما.
خرج كوليبالي من متز واتجه نحو غنك البلجيكي عام 2012، وفي ذات شتاء من 2014 كان عند محطة القطار ينتظر وصول صديقه أحمد وفجأة رن هاتفه، قال المتصل: مرحباً كاليدو أنا رافائيل بينيتز مدرب نابولي، رد عليه السنغالي: أحمد لا تعبث معي إنني انتظرك عند المحطة، وأقفل الخط في وجهه.
اتصال آخر لم تكن نتيجته مختلفة عن السابق، بعدها بثوانِ اتصل عليه وكيله قائلاً: كاليدو هل اتصل عليك رافائيل بينيتز إنه يريدك في نابولي. فجأة استوعب كوليبالي ما حدث وشرح القصة لوكيل أعماله الذي وضح الصورة كاملة للمدرب الإسباني، لكن الانتقال لم يتم بسبب تبقي 48 ساعة فقط على إقفال فترة الانتقالات الشتوية ولم تتم العملية، لكن “رافا” كان عند كلمته وحدث الانتقال في صيف ذات العام.
يستذكر المدافع السنغالي ما حدث وقال: كنت خائفاً بعض الشيء من الانتقال للعيش في مدينة نابولي، تعرف الأفكار المسبقة التي يتلقاها المرء مثل المافيا والجريمة، ولذلك لم أكن مرتاحاً بشكل كامل، لكن عندما وصلت إلى هناك اختلف الأمر مباشرة فالناس ودودون ولطفاء للغاية لقد ذكروني بإفريقيا.
خرج الفتى الخائف من نابولي بعد 8 أعوام منذ ذلك التاريخ تاركاً قطعة من قلبه في بلاد البيتزا ومارادونا والمافيا، ترك جنوب إيطاليا وهو مواطن نابوليتاني فخري.
دولياً لعب كوليبالي لفئات فرنسا السنية، ظهر مع منتخب فرنسا للشباب في كأس العالم للشباب في كولومبيا إلى جانب أنطوان غريزمان، لكن بعد عام واحد قرر التوقف عن ذلك في قرار صعب، ساعدته فيه فتاة ولدت في ذات اليوم وذات المشفى، وهي شارلين أودونوا التي أصبحت زوجة كاليدو لاحقاً.
ظهر كوليبالي للمرة الأولى في كأس العالم 2018 في عودة السنغال إلى المونديال بعد غياب، غادر الدور الأول بينما الجيل الذي لعب معه في كأس العالم 2011 للشباب بقميص منتخب فرنسا كان يحتفل بالبطولة، إذ ضمت قائمة فرنسا في البطولة التي لعبت بكولومبيا كوليبالي وغريزمان، وبعد 7 أعوام في كأس العالم للكبار كان كاليدو سنغالياً وغريزمان فرنسياً.
“هل خسرت فرصة أنك تكون بطلاً للعالم بسبب اختيارك تمثيل السنغال ؟” سؤال كان يتردد على كاليدو طوال صيف 2018، لكن إجابته كانت بكل بساطة: لا، أردت أن أكتب مستقبل كرة القدم السنغالية، وأتمنى أن أكون وفقت في ذلك.
وفي إيطاليا شاهد كوليبالي العنصرية في ملاعب إيطاليا، يرى الإهانات العنصرية توجه نحو اللاعبين الرومان والقادمين من جنوب البلاد وكذلك الأفارقة، ونذر كاليدو نفسه لمحاربتها بل وطالب الاتحاد بمحاربتها بشدة وكذلك انتقد تقاعسها عن الوقوف في وجه العنصرية.. ويقول عن ذلك بابتسامة: أعتقد أن الأطفال يفهمون العالم أكثر من البالغين، خصوصاً فيما يتعلق بالتعامل مع الآخرين، وفي حيّنا خير مثال.
Source link