على المؤمن أن يجعل لسانه مصدر خير، وأن يعوده القول الحسن الجميل، الذي يعمر ولا يدمر، ويبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق.
الحمد لله الذي جعل الكلام ترجماناً يعبر عن مستودعات الضمائر، وتخبر شواهده عن مكونات السرائر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أكثر الناس صمتاً، وأشهرهم ذكرا، وأجلهم مكانة، وأقدسهم طهرا، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الإنسان حين يريد أن يستجمع أفكاره ويراجع أعماله، ويقيس في الحياة أموره وأحواله – يجنح إلى الصمت؛ فالصمت سمة من سمات المؤمنين، وصفة من صفات العقلاء المفكرين، أوصى به الإسلام، فقد دعا المولى عباده إلى الصمت بتنبيههم على المؤاخذة على الكلام، فقال -تعالى-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
فينبغي للعاقل المكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاما تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالإمساك عنه أفضل؛ لأنه قد يجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت».
فمن نطق في غير خير فقد لغا، ومن نظر في غير اعتبار فقد سها، ومن سكت في غير فكر فقد لها. جاء في الأثر أن يونس -عليه السلام- لما خرج من بطن الحوت طال صمته فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيرني في بطن الحوت.
إن اللسان السائب حبل مرخي في يد الشيطان، فإذا صمت ولم يتكلم كان من أهل الجنان، وإذا تكلم وجّهه الشيطان كيف يشاء ومتى أراد، فإذا لم يملك الإنسان أمره كان فمه مدخلا للنفايات وقلبه محطا للملوثات، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
إن الكلمة أحرف ينطق بها اللسان، يوزن بها الإنسان؛ فالمرء مخبوء تحت لسانه؛ فهو في حال صمته يعسر الحكم عليه، فإن تكلم ظهر أمره وبان، وعرفت شخصيته من خلال اللسان، إن كان فارغا أو كان ذا قدر وشأن، وقد جاء في الحديث: «إذا أصبح ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّرُ اللَّسانَ فتقولُ: اتَّقِ اللهَ فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا».
إن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه وفلتات اللسان، فالعاقل هو الذي يتحرى الكلمة قبل أن ينطق بها؛ فما أحسن حفظ اللسان! والإنسان لو حفظ لسانه ما هلك، قال أحدهم: الكلام كالدواء؛ إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل.
إن المؤمن الصادق هو الذي يعيش في حذر دائم من فلتات لسانه، فيجعل عمله كثيرا وكلامه قليلا، وذلك خير له، فكثير الكلام يندم على كثرة كلامه، ولن يندم صامت على صمته في الغالب؛ فالعمل يكثر أو يقل بمقدار كثرة الكلام أو قلته؛ فكثير الكلام قليل العمل، وقليل الكلام كثير العمل.
فعلى المؤمن إن تكلم أن يتكلم بما يعود بالفائدة عليه، وعلى مجتمعه ووطنه، قال لقمان لابنه: يا بني، إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك.
يقول اللسان كل صباح وكل مساء للجوارح: كيف أنتن؟ فيقلن: بخير إن تركتنا، وروي عن النبي – صلى الله عليه وسلم- بسند فيه ضعف أنه قال: «رحم الله من قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم» .
إن الكلام التافه مضيعة للعمر، وهدر للوقت في غير ما خلق الإنسان له من جد وإنتاج، روي أن أعرابيا تكلم عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطول، فقال له صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «كمْ دونَ لسانِك من حجابٍ» ؟ فقال شفتايَ وأسناني، قال: «أفما كان لك في ذلك ما يردُّ كلامَك» . (ذكر العراقي أنه مرسل وإسناده ثقات).
فإن تكلم المرء فليقل خيرا، وليعود لسانه الجميل من القول؛ فإن التعبير الحسن عما يجول في النفس أدب عالٍ أدّب الله به عباده المؤمنين، قال -تعالى-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53].
إن لصاحب الكلمة الطيبة مكانة عالية ومنزلة رفيعة عند الله وعند الناس، فهو عند الله في جنات ونهر؛ لأنه لا يتكلم إلا بما يرضي رب البشر، وهو عند الناس كالنبراس يضيء لهم طريق حياتهم، فيأتون إليه، ويثقون فيه، ويستنصحونه، فيكون من عناصر الصلاح في المجتمع، وما ذلك إلا لكلماته الطيبة، وتعبيراته اللطيفة، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق، ويقول -تعالى-: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].
وأما الجاهل الشرس الطبع الذي لا تلزمه المكارم مروءة فإنه لا يبالي أن يتعرض للآخرين بما يكرهون، فإذا وجد مجالا يشبع فيه طبعه الجهول، وقلبه الحاقد المغلول، انطلق على وجهه لا ينتهي له صياح.. فالواجب أن لا يؤخذ بكلامه، ولا يعول على أقواله؛ فالاستماع إليه في ميزان الإسلام غير مرغوب، وإن كان الإنصات لكلامه مطلوبا، لوجوب حسن الخلق مع الجميع؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ائذَنوا له، بئسَ أخو العشيرةِ فلما دخل ؛ ألانَ له الكلامَ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ! قلتَ الذي قلتَ، ثم ألَنتَ الكلامَ ؟ قال: أي عائشةُ ! إنَّ شرَّ الناسِ من تركه الناسُ أو ودَعَه الناس اتِّقاءَ فُحشِه، و في طريقِ أخرى: إنَّ اللهَ لا يحبُّ الفاحشَ المتَفَحِّشَ.
قال بعضهم: إذا جالست الجهال فأنصت لهم، وإذا جالست العلماء فأنصت لهم؛ فإن في إنصاتك للجهال زيادة في الحلم، وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم، وقد قيل: لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام رجع إلى قلبه؛ فإن كان له تكلم، وإن كان عليه أمسك، وقلب الجاهل من وراء لسانه، يتكلم بكل ما عرض له.
إن الإنسان لو شغل نفسه بتأديب كل جهول يلقاه لأعيته الحيل من كثرة ما سوف يلقى، ولذلك عد القرآن الكريم في أوائل الصفات التي تحلى بها عباد الرحمن هذه المداراة، قال -تعالى-: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63].
عباد الله: إن حد الصمت والكلام المطلوب أن تتكلم فيما يعنيك، فإن سكت عنه لم تأثم، ولم تستضر به في حال ولا مآل، وأساس ذلك كله أن تعلم أنك مسؤول عن كل كلمة، محاسب على كل لفظة، يقول الله -تعالى-: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13].
إن الكلام إن لم يحصر بالحاجة ولم يقدر بالكفاية، لم يكن لحده غاية، ولا لقدره نهاية، قال بعضهم: إن الكلام إذا لم يكثر عن قدر الحاجة، ولم يزد على حد الكفاية، وكان صوابا لا يشوبه خطل، وسليما لا يعوده زلل، فهو البيان، السحر الحلال.
ولا يجعل المؤمن دافعه للكلام اشتهاءه له ورغبته المطلقة فيه، بل من الحكمة أن تعقل اللسان عندما تشتهي الكلام من غير داع، سأل رجل حكيما فقال: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، فقال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام.
فعلى المؤمن أن يجعل لسانه مصدر خير، وأن يعوده القول الحسن الجميل، الذي يعمر ولا يدمر، ويبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق.
إن كلام المرء بيان لفضله وترجمان لعقله، فليقصره على الجميل وليقتصر منه على القليل، وصونوا أوقاتكم وعمروها بذكر الله الحميد المجيد، وكل قول سديد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
وعلى الإنسان أن يراعي مخارج كلامه، بحسب مقاصده وأغراضه؛ فإن كان ترغيبا قرنه باللين واللطف، لا بالخشونة والعنف، فإن لين اللفظ في الترهيب وخشونته في الترغيب خروج عن موضعهما، وتعطيل للمقصود بهما، فيصير الكلام لغوا، والغرض المقصود لهوا، وإلا فالصمت أولى؛ فمن دلائل الفلاح ووسائل الرقي والنجاح الإعراض عن لغو الكلام، يقول -سبحانه-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1-3].
وقد وصف الله عباده بعدة صفات، ذكر منها أنهم يكرمون أنفسهم فيبتعدون عن كل مجلس فيه لغو، يقول الله -سبحانه-: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].
وأوصى رجل ابنه فقال: يا بني، إن كنت في قوم فلا تتكلم بكلام من هو فوقك فيمقتوك، ولا بكلام من هو دونك فيزدروك.
إن المؤمن الذي يمسك لسانه عن فضول الكلام يدخل الجنة بسلام؛ فمن وسائل النجاة في الدنيا والآخرة الصمت وحفظ اللسان، سأل عقبة بن عامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(بتصرف).
Source link