جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي، وفي الأتباع، وفي الدرجات والمراتب عند الله عز وجل، وفي اكتمال الصفات من الحزم والعزم وغير ذلك.
قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ} أشار إلى الرسل بإشارة البعيد «ذلك» تنويهًا بشأنهم وعلو مراتبهم، وأشار إليهم بإشارة المؤنث؛ لأن الرسل جمع تكسير، وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في الإشارة إليه، وفي تأنيث فعله، كما في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14].
{فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ؛ أي: جعلنا بعضهم أفضل من بعض؛ كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55].
والمعنى: جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي، وفي الأتباع، وفي الدرجات والمراتب عند الله عز وجل، وفي اكتمال الصفات من الحزم والعزم وغير ذلك.
فأفضلهم أولو العزم من الرسل، وهم المذكورين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7].
وأفضل أولو العزم محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» [1]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع» [2].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل» ، وفي لفظ: «فعنده طهوره ومسجده» ، «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» [3].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» [4].
إلى غير ذلك من الفضائل التي خصه الله تعالى بها.
وأفضل أولو العزم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل، أبو الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، اتخذه الله عز وجل خليلًا كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [النساء: 125]، وأفضلهم بعد إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – موسى بن عمران كليم الرحمن – عليه الصلاة والسلام – ثم بقية أولو العزم وهما: نوح وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} الجملة مستأنفة؛ لبيان بعض أوجه التفضيل بينهم، وهي تكليم الله لبعضهم، أي: من الرسل من كلمه الله عز وجل فالعائد محذوف.
وممن كلم الله عز وجل من الرسل موسى- عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم: 52].
كما كلم الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وفرض عليه الصلوات الخمس؛ ولهذا يقال له صلى الله عليه وسلم: كليم الله.
كما كلم عز وجل آدم عليه الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]، وقوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وقوله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19].
قال ابن كثير[5]: «منهم من كلم الله، يعني: موسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وكذا آدم، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه».
كما كلم عز وجل وخاطب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
كما كلم عز وجل زكريا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41].
كما كلم عز وجل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:
{إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. [آل عمران: 55].
وكلم عز وجل داود عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
وكلم عز وجل نوحًا عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45، 46].
كما كلم عز وجل الملائكة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
كما رُويَ أنه عز وجل كلَّم عبدالله الأنصاري والد جابر بن عبد الله كفاحًا، قال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه: «ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا» الحديث[6].
كما كلم عز وجل صاحب القرية، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259].
وإنما خص موسى عليه السلام باسم «الكليم»؛ لأن الله كلمه بالوحي إليه وإرساله، وقال له: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144].
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} معطوف على قوله: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
لكن فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، أي: ورفع بعض الرسل على بعض مراتب ومنازل، ومقامات، فأعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم المقام المحمود، وهو الشفاعة بين يدي الرب عز وجل لمحاسبة الخلائق بعدما يلجمهم العرق، ويشتد بهم الكرب، وبعدما يعتذر عن الشفاعة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وهو مقام الشفاعة، وعسى من الله تعالى واجبة.
وفي حديث الشفاعة، فيقول صلى الله عليه وسلم: «أنا لها، فيسجد تحت العرش ويفتح عليه من المحامد، فيقال له: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع» [7].
كما يرجو صلى الله عليه وسلم أن تكون له الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، ففي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلَّوا عليَّ، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل اللهَ لي الوسيلة حلت له الشفاعة» [8].
وفي حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء في السماء بحسب منازلهم عند الله عز وجل، فإبراهيم في السماء السابعة، وموسى في السماء السادسة، وهارون في الخامسة، وإدريس في الرابعة، ويوسف في السماء الثالثة، ويحيى وعيسى في السماء الثانية، وآدم في السماء الدنيا»[9].
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87].
وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} معطوف على ما قبله، أي: وأعطينا عيسى ابن مريم الآيات الظاهرات والحجج الواضحات، والدلائل القاطعات على صدق رسالته عليه الصلاة والسلام، وعلى أنهن حق من عند الله عز وجل، والمبينات للحق من الباطل والحلال من الحرام.
وهي قسمان: آيات بينات شرعية من تعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وآيات كونية جعلها الله عز وجل على يديه من تكليمه الناس في المهد، وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وإحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى.
كما قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 48، 49].
وقال الله تعالى في سورة المائدة: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110].
{وَأَيَّدْنَاهُ} أي: قويناه، {بِرُوحِ الْقُدُسِ}، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام؛ كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193].
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} «لو»: شرطية؛ وهي حرف امتناع لامتناع، و«شاء»: فعل الشرط، و«ما»: نافية، وجواب الشرط جملة: {مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، أي: من بعد الرسل.
ومفعول «شاء» محذوف دل عليه جواب الشرط، والتقدير: ولو شاء الله أن لا يقتتل الذين من بعدهم ما اختلفوا؛ أي: ولوا أراد الله ما وقع الاقتتال بين الذين من بعدهم، أي: من بعد الرسل جملة، أو من بعد كل رسول حيث يحصل الاقتتال والاختلاف في كل أمة بعد رسولها.
كما حصل في هذه الأمة – وهي أفضل الأمم – الخلاف والاقتتال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما أحدثه أهل البدع من الخوارج والرافضة والقرامطة والباطنية وغيرهم من أهل البدع من شرخ شق صف الأمة الإسلامية بعد وحدتها، وأضعفها أمام أعدائها منذ عهد الخلافة الراشدة إلى يومنا هذا، فما زالت الأمة تكتوي بناره.
حيث كان أهل البدع في جميع الأعصار والأمصار- بما هم عليه من خيانة لله ولدينه ولرسوله وللمؤمنين – غصة في حلوق أهل الإسلام، ومركبًا لأعداء الإسلام تمكنوا من خلالهم من محاربة الإسلام؛ والاستيلاء على كثير من بلاد المسلمين وخيراتهم.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» [10].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» ، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» [11].
{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: من بعد ما جاءتهم على ألسنة الرسل وعلى أيديهم الآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، والدلائل الواضحات الشرعية والكونية على صدق الرسل وما جاؤوا به من الرسالات، أي: بعد إيضاح الحق لهم.
{وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} معطوف على قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، و«لكن» للاستدراك، أي: ولكن اختلفوا فكان هذا الاختلاف سببًا لاقتتالهم.
{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} : بيان لكيفية اختلافهم، وأنه اختلاف في الدين، و«من»: في قوله: {فَمِنْهُمْ} في الموضعين تبعيضية، و«من» في قوله: {مَنْ آمَنَ}، وقوله: {مَنْ كَفَرَ} : موصولة، أي: فبعضهم الذي آمن بالله وصدق رسله ورسالاته، وبعضهم الذي كفر وكذب الرسل وجحد الرسالات.
أي: فمنهم من آمن برسوله، ومنهم من كفر به، ومنهم من آمن برسالات جميع الأنبياء، ومنهم من كفر به كلها، أو ببعضها، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} [البقرة: 113].
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} توكيد لقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، أي: ولو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} الواو: عاطفة، و«لكن» للاستدراك، و«ما»: موصولة، وهذا استدراك على قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} ؛ ليبين أن ما وقع من الاختلاف والاقتتال كان بإرادته عز وجل الكونية، والتي هي بمعنى المشيئة، كما قال تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
والمعنى: ولكن الله يفعل الذي يريد، أي: الذي يشاء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
ومما شاءه عز وجل وأراده كونًا الاقتتال والاختلاف بين الأمم، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119].
[1] أخرجه الترمذي في التفسير (3615)، وابن ماجه في الزهد (4308) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
[2] أخرجه مسلم في الفضائل – فضل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (2278).
[3] أخرجه البخاري في التيمم (335)، وفي الصلاة (438)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (521)، والنسائي في الغسل والتيمم (432).
[4] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981)، ومسلم في الإيمان (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] في «تفسيره» (1/ 448).
[6] أخرجه الترمذي في التفسير (3010)، وابن ماجه في المقدمة (190)، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب».
[7] أخرجه البخاري في الأنبياء (3340)، ومسلم في الإيمان (194)، والترمذي في صفة القيامة ()2434)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في الصلاة (384)، وأبو داود في الصلاة (523)، والنسائي في الأذان (678)، والترمذي في المناقب (3614).
[9] أخرجه البخاري في المناقب (3884)، ومسلم في الإيمان (164) من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما.
[10] أخرجه البخاري في العلم (12)، ومسلم في الإيمان (65)، والنسائي في تحريم الدم (4131)، وابن ماجه في الفتن (3942) من حديث جرير رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الإيمان (31)، ومسلم في الفتن (2888)، وأبو داود في الفتن (4268)، والنسائي في تحريم الدم (4121) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
Source link