فصل في صبر الحبيب صلى الله عليه وسلم

طفل في السادسة يودِّع أمه في الصحراء، وقد كانت تحتضنه وهي تنازع سكرات الموت؛ فهو نبض قلبها، وحُشاشةُ كبدها، ثم تموت أمامه.

لك أن تتخيل مدى الألم وهو ابن ست سنوات يحفر في الصحراء قبر أمه، التي تموت وهو برفقتها بعد زيارة قبر أبيه، ثم بعد أن وُضِعَتْ في اللحد… طفل في السادسة يودِّع أمه في الصحراء، وقد كانت تحتضنه وهي تنازع سكرات الموت؛ فهو نبض قلبها، وحُشاشةُ كبدها، ثم تموت أمامه.

 

يكفله جَدُّه، ويُسبِل عليه أجنحة العطف، فلما أن تعلق قلب الصبي به، مات، ثم يكفله عمه، ويجد أن الدنيا كلها تحاربه وتكشِّر أنيابها في وجهه، ولا مدافعَ عنه سوى عمه، ويوم أن مات عمه، زادت وطأة العدو عليه، وأمعنوا في إيذائه.

 

تزوَّج خديجة ومعها وجد الأنس والسَّكِينة والحب، ونصرتْهُ بمالها وجَهدها وحياتها، وسخرت له كل إمكانيتها، ووقفت معه مؤازِرَةً تشُدُّ من عَضُدِه، وكانت بمثابة القوة الداخلية، وكان عمه بمثابة القوة الخارجية، ويموتان في عام واحد، وهو أحوج ما يكون إليهما؛ فيكون ذلك العام عام الحزن.

 

طُلِّق اثنتان من بناته في يوم واحد؛ بسبب عقيدته ودينه، وإحدى بناته وهي زينب تلحق به إلى المدينة، حين كان زوجها كافرًا، فيعترضها في الطريق مَن يعترضها وهي حامل، فيحاصر جملها، وتتعارك معهم، فتسقط ويسقط جنينها، وتقدم عليه المدينة مضرجة بدمائها.

 

ينتصر في أعظم معاركه، وفي نفس لحظة الانتصار تأتي إليه الأنباء أن ابنته ماتت في المدينة، فأصبحت التهاني عزاء، وانقلب البِشْرُ مواساة، ولم يلحق النظر إليها ودفنها.

 

أي وجع كهذا، تذوب أمامه شُمُّ الجبال؟!

 

كل أولاده ماتوا في حياته، سوى فاطمة، وقد علِم أنها ستلحق به سريعًا، ولما رُزِق ولدًا جميلًا بهيَّ الطلعة، وبلغ السنتين، داهمه الموت، فاحتضنه ودموعه تسيل، ثم تعلل بالحسن والحسين ابني بنته، فيخبر بأحداث مؤلمة قادمة عليهما.

 

يُسَبُّ بكل ألفاظ السبِّ ويُشتَم، ويُسخَر منه، ويلقى سيلًا من التهم الباطلة، ويُقال له: مجنون، ساحر، كذاب، شاعر، بل وتُنظَم في ذمه القصائد، ويُلقى سلا الجزور على ظهره وهو ساجد.

 

يُرجَم حتى يسيل الدم من عَقِبيه، ويستمر الرجم لمسافة خمسة كيلومترات، والراجمون على جنبتي الطريق، كل همهم إصابته، وهو يمضي بينهم صابرًا محتسبًا مفوِّضًا أمره لله، ولم يفِق إلا وهو في قرن الثعالب، مسافة طويلة مشاها وهو في غيبوبة الهمِّ.

 

يبيت لياليَ في وادي نخلة غير قادر على دخول مكة، ولا يستطيع اللجوء إلى أي بلد؛ حيث تجهَّم في وجهه البعيد، وأساء به وحاصره القريب، ثم يرسل إلى كبار مكة طالبًا منهم الدخول في جوارهم، ويرفضون تِباعًا حتى قبِل منهم أخيرًا مُطْعِم بن عَدَيٍّ.

 

تعرَّض لعشرين محاولة اغتيال، واجتمعت قريش في دار الندوة لإقرار أحد المقترحات؛ قتله، أو نفيه، أو سجنه، ويخرج متخفيًا إلى الغار، ويقف خمسون منهم مدجَّجون بأسلحتهم على فم الغار، ويعلنون عن مائة ناقة لمن يأتي به حيًّا أو ميتًا، ويلحقه الطلب في طريق المدينة.

 

يُبتلَى بالجوع فيربط الحجر على بطنه، وهو الذي يقدر أن يدعو فتتحول الجبال حوله ذهبًا، لكن يُؤثِرُ الصبر، ويمكث شهرين لا يُوقَد في بيته نار، ويخرج ذات مرة في سِكَكِ المدينة لا يخرجه إلا الجوع، وعندما أكل في بيوت أحد أصحابه، أرسل طعامًا عاجلًا لابنته وفِلْذة كبده؛ لأنها لم تذُقْ طعامًا منذ ثلاث.

 

يُقتَل أصحابه بين يديه في أُحُد، ويُشَجُّ وجهه، وتُكسَر رُباعِيته، ويسيل الدم من فمه، ويمثَّل بعمِّه؛ حيث يُشَق بطنه، وتُقطع كبده، وتُجدع أنفه، وهو صابر ثابت كالجبال الراسخة يقف على جثمانه والألم يعصِره عصرًا، فيعزِم على أن يمثِّل بسبعين منهم؛ فينزل عليه: ﴿  {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}  ﴾ [النحل: 126]، فيواصل المضي في مسيرة الصبر، ولا سوى الصبر يتدرَّع به.

 

يحب زوجته عائشة رضي الله عنها ويسكن إليها، فينغَّص عيشه بقذفها والطعن في عِرضها، وتبكي هي حتى يتقلص دمعها، ويفُتُّ الحزن كبدها، وتصبح قصتها حادثة تَلُوكها الألسن شهرًا كاملًا؛ فيضيق صدره، وتنقبض نفسه، وهل هناك أشد من أن تُطعَن في عِرضك ويُفرى بألسنة حداد؟

 

يدعو إلى التوحيد فيتبعه عمه أبو لهب يحذر الناس منه في المجالس، ويُحاصَر في الشِّعْبِ ثلاث سنوات مع أصحابه، حتى لا يجدون إلا ورق الشجر، ويُظهِر المعجزات فيقوم في وجهه مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وابن صياد.

 

مكر به اليهود وحاولوا قتله مرارًا، وتآمروا عليه في خيبرَ، ونقضوا العهد معه، ووقفوا في صف الأحزاب، وأحاطت العرب واليهود بالمدينة حتى لم يقدر أحد من المسلمين الخروج ببوله، وكذبوه وسخروا منه.

 

حاول عقبة بن أبي مُعَيْطٍ قتل النبي صلى الله عليه وسلم خنقًا، وشقَّ عتيبة بن أبي لهب قميصه، وأحاطوا به في حنينٍ، ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة همَّ جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، وحاول بنو النضير أن يُلقُوا عليه صخرة ليقتلوه، وأساء له رأس المنافقين عبدالله بن أُبَيٍّ.

 

تحاصره الأوجاع، وتطوله الأمراض، فيُوعَك كما يوعك الرجلان، بل ويُسحَر من لبيد بن الأعصم، ويتآمر عليه اليهود، فتقدِّم له امرأة السُّمَّ، وتشتد عليه الحُمَّى قرابة عشرين ليلة، وتتداعى عليه الآلام عند الموت، ويضرب عليه العرق من سم اليهودية.

 

تُشدَّد عليه سكرات الموت، فيُغمى عليه ويفيق مرارًا، ثم تُسلب روحه الشريفة الزكية، وهو مضطجع في كساء ملبَّدٍ، وإزار غليظ، في بيت مظلم ليس عند زوجته ليلتها زيت تُوقِد به مصباحها، ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام لأهله.

_________________________________________
الكاتب: عامر الخميسي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *