قدَّر الله تعالى الأشهر والأيام في هذه الحياة، وجعل سبحانه وتعالى لبعض هذه الشهور ما يخصه من فضائلَ وواجبات وعلامات.
قدَّر الله تعالى الأشهر والأيام في هذه الحياة، وجعل سبحانه وتعالى لبعض هذه الشهور ما يخصه من فضائلَ وواجبات وعلامات.
وإنما نخص بالذكر في هذا الموضع شهرًا من الشهور التي نحتاج إلى أن نقف معها؛ وهو شهر شعبان؛ لنتعرف ما قد صحَّ عنه وما لم يصح.
• فأما عن أهم العبادات التي صحَّت في هذا الشهر خاصة، فهي كثرة الصيام، وذلك على خلاف ما يتوهمه كثيرٌ من الناس، حين تراهم يُكْثِرون من الصيام في رجب خاصة، دون أن يصح في فضيلته حديث بعينه، حتى إذا ما دخل شعبان، عزف الناس عن الصيام استعدادًا لرمضان، وهذا خلاف سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيامَ شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان))؛ (متفق عليه).
وقالت عائشة رضي الله عنها: ((ولم أَرَهُ صائمًا من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا))؛ (متفق عليه).
فإذا سألتَ: وما العلة من الإكثار من الصيام في شعبان؟ فالجواب: قال أسامة بن زيد رضي الله عنه: ((قلت: يا رسول الله، لم أرَكَ تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحِبُّ أن يُرفَع عملي وأنا صائم»؛ (رواه النسائي، وسنده صحيح).
فهذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس، فإن العبادة فيها من أعظم العبادات؛ وذلك لأن العبادة في وقت الغفلة أجرها عظيم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن جوف الليل الآخر، والذي فيه الغفلة والنوم عن ذكر الله؛ «إنِ استطعت أنْ تكون ممن يذكر الله تعالى في تلك الساعة، فَكُنْ»؛ (أخرجه الترمذي وسنده صحيح).
ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم ينتظرون صلاة العشاء؛ قال لهم: «ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم»؛ [متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «عبادة في الهرج كهجرة إليَّ»؛ (أخرجه مسلم)، والهرج هي أوقات الفتن واضطراب الأمور.
فهذه الآثار إنما تدل على فضيلة العبادة في أوقات الغفلة عن ذكر الله تعالى.
عَود إلى الحديث عن شعبان:
لذا فمن آكد السنن في هذا الشهر هو الإكثار من الصيام فيه.
فإن قيل: روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا»؛ (رواه الترمذي، وأبو داود، وسنده صحيح)، فالجواب: أن هذا الحديث مما اختلف العلماء في صحته.
وإن قلنا بصحته، فهو محمول على من ليس من عادته الصوم في شعبان، حتى إذا انتصف شعبان بدأ في الصوم؛ استعدادًا لرمضان، فمثل هذا يُكْرَه له الصوم بعد النصف من شعبان، والله أعلم.
مما يتعلق أيضًا بهذا الشهر ما ورد فيما يخص ليلة النصف من شعبان؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لَيطَّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن»؛ (رواه الطبراني في الأوسط، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي، وصححه الألباني)، والمشرك: كل من أشرك مع الله شيئًا، في ذاته تعالى، أو في صفاته، أو في عبادته، والمشاحن: قال ابن الأثير: هو المعادي، والشحناء: العداوة والتشاحن، وقال الأوزاعي: أراد بالمشاحن ها هنا صاحب البدعة، المفارِق لجماعة الأمة.
ففي الحديث فوائدُ: الأولى: أن الشرك لا يغفره الله بحال لمن مات على الشرك؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]، فالشرك أمره خطير.
والمسلم يخشى على نفسه أن يقع في هذا الباب وهو لا يدري؛ كمن يحلف بغير الله، أو يتطير ويتشاءم، أو يسب دين الله عز وجل، أو يصدِّق العرافين، أو التوكل على غير الله، وإذا كان إبراهيم عليه السلام يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، فمن يأمن الفتنة والشرك بعد إبراهيم عليه السلام؟
فاحذر – أخي – من الشرك كله، دِقِّه وجُلِّه، كبيره وصغيره.
ومما يتعلق بهذا الحديث من فوائد:
الترغيب في الإصلاح بين الناس، وقطع مادة الشحناء والخصومة بينك وبين إخوانك؛ روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُفتَح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا»، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»؛ (رواه البخاري)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيُعرِض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»؛ (رواه البخاري).
فبادر أخي، وكن خير الرجلين؛ «خيرهما الذي يبدأ بالسلام»، بادر أخي بقطع البغضاء والمقاطعة مع إخوانك، قبل أن يطلع الله عليك ليلة النصف من شعبان، فلا يقبل منك صرفًا ولا عدلًا، حتى تقطع الخصومة بينك وبين إخوانك.
بادر بالعفو والصفح والمصافحة؛ قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، وقال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237].
إننا نحتاج في مثل هذه الأيام خاصة إلى أن نطهر قلوبنا من أمراضها وأسقامها؛ سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس، فقال: «كل مَخْمُوم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: التقي النقي، لا إثمَ فيه ولا بغيَ، ولا غلَّ ولا حسد»؛ (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وفي حديث أنس عند أحمد، قال النبي صلى الله عليه و سلم: «يطْلُع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فتبِعَهُ عبدالله بن عمرو بن العاص، وبات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يَرَهُ يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارَّ وتقلب على فراشه، ذكر الله عز وجل وكبَّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، فلما مضت الثلاث ليالٍ، قال له عبدالله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرارٍ: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردتُ أن آويَ إليك لأنظر ما عملك، فأقتديَ به، فلم أرَكَ تعمل كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبدالله: هذه التي بلغتْ بك، وهي التي لا نطيق))؛ (قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين).
ومما يتعلق بهذا الباب:
المسارعة بالإصلاح بين الناس، فمن علِم – مثلًا – بخصومة أو قطيعة بين رجلين، فعليه أن يبادر بالمصالحة بينهما؛ قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
ومما يتعلق بهذا الباب:
لم يصح حديث في إثبات أي عبادة في ليلة النصف من شعبان، من اجتماع على قيام أو قراءة قرآن مثلًا، وكل ما ورد في ذلك فهي أحاديث تدور بين الضعف والوضع.
وكل من ادَّعى عبادة ما في هذه الليلة فليأتِ بالدليل، وإلا كان واقعًا تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»؛ أي: مردود عليه.
ثم نقول: ما ثبت من أحاديثِ نزولِ الله في هذه الليلة – ليلة النصف من شعبان – لا يلزم منها أن ننشئَ عبادة ليس عليها دليل من كتاب أو سنة، فالقاعدة التي قعدها العلماء أن (ثبوت فضيلة وقت ما لا يلزم منها إنشاء عبادة فيه لا دليل عليها)، وعليه نقول: فما يحدث في الكثير من المساجد في ليلة النصف من شعبان فيما يعرف بـ”صلاة الألفية”، التي تُقرَأ فيها سورة الإخلاص ألف مرة، فهي من البدع المحرمة.
وهذه البدعة أول ما أُحْدِثت كانت سنة ثمانٍ وأربعين وأربعمائة (448 ه)، في بيت المقدس، ثم انتشرت في الأقطار والأمصار، وهكذا شأن البدع تبدأ صغارًا، ثم تكبر حتى تصبح دينًا عند أهلها[1].
تَمَّ بحمد الله.
[1] وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: “وأخبرني أبو محمد المقدسي، قال: لم تكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمانٍ وأربعين وأربعمائة [448هـ]، قدم علينا في بيت المقدس رجل من أهل نابلس يُعرَف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهم ثالث، ورابع، فما ختمها إلا وهم في جماعة كبيرة، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، ثم جاء من العام القابل فصلى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد، وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس، ومنازلهم ثم استقرت كأنها سنة إلى يومنا هذا”؛ [وانظر: كتاب الحوادث والبدع، للطرطوشي، المتوفى سنة 474هـ، ص/266]، وقال الإمام أبو شامة الشافعي رحمه الله: “وأما الألفية فصلاة النصف من شعبان سُمِّيت بذلك لأنها يُقرَأ فيها ألف مرة ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]؛ لأنها مائة ركعة، في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة، وسورة الإخلاص عشر مرات، وهي صلاة طويلة مستثقلة لم يأتِ فيها خبر، ولا أثر، إلا ضعيف أو موضوع، وللعوام بها افتتان عظيم، والتزم بسببها كثرة الوقيد في جميع مساجد البلاد، التي تُصلَّى فيها، ويستمر ذلك الليل كله، ويجري فيه الفسوق والعصيان، واختلاط الرجال بالنساء، ومن الفتن المختلفة ما شهرته تغني عن وصفه، وللمتعبدين من العوام فيها اعتقاد متين، وزين لهم الشيطان جعلها من أصل شعائر المسلمين؛ [كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، لعبدالرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة، المتوفى سنة 665هـ، ص124].
___________________________________________________
الكاتب: أبو عبدالرحمن أيمن إسماعيل
Source link