إن مشكلتنا تتخلص في أننا لا نحس بأننا سبب من أسباب انحدار أمتنا وتخلفها، ونتغافل عن كوننا جزءًا من أجزاء الأمة التي نريد صلاحها، وكل واحد منا يرمي باللائمة على الغير، ومن المضحك جدًا أن نلوم عدوّنا، ونجعله سبب مشاكلنا؛ لكي نتنصل من مسؤولياتنا، ونرتاح من تبعات التحليل والتدقيق، والمحاسبة والتقويم، فهل ندرك ذلك في نهاية عام نودعه وبداية عام نستقبله؟!
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:
فإن صحة الأبدان، وأمن الأوطان، ورغد العيش هي مقومات الحياة، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن(. وبفقدان واحدة من هذه الثلاث يكون عيش الإنسان منغصًا ولربما تمنى الموت، وهذه النعم الثلاث عندما يجدها الإنسان فإنه لا يحس بمرور الأيام، وانقضاء الأعوام؛ فالأيام تمر عليه سريعًا.
كان هذا العام بالأمس مبتدئًا، وها هو الآن ينتهي، وكأننا لم نعش أيامه وشهوره؛ لكن المرضى والخائفين والجائعين والأسرى والمسجونين، قد طالت عليهم أيامه وأبطأت شهوره، من شدة ما يجدون ويحسون!!
ضرورة المحاسبة:
في آخر أيام هذا العام لا بد من المحاسبة والمراجعة؛ فالمؤمن يعلم أن حياته ليست عبثًا، ويدرك أنه لم يخلق هملًا، وهو على يقين أنه لن يترك سدى، وقد يعمل الإنسان في حياته أعمالًا ثم ينساها؛ لكنه يوم القيامة سيوفاها كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [المجادلة: 6]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]. وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
إن النعم التي يتقلب الناس فيها، والصوارف التي تحيط بهم تجعلهم ينسون الحساب، ويغفلون عن ذكر يوم المعاد: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ.مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 1، 2].
كيفية المحاسبة:
لا بد أن ينظر الإنسان في عمله، ويتأمل حاله كيف قضى عامه؟ وفيم صرف أوقاته؟ في عامه الراحل كيف كانت علاقته بربه؟ هل حافظ على فرائضه، واجتنب زواجره؟ هل اتقى الله في بيته؟ هل راقب الله في عمله وكسبه وفي كل شؤونه وأحيانه؟ فإنه إن فعل ذلك صار يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه، ومن حاسب نفسه في العاجلة أمن في الآخرة، ومن ضحك في الدنيا كثيرًا ولم يبك إلا قليلًا يخشى عليه أن يبكي في القيامة كثيرًا كما قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} (التوبة: 82]. قال ابن عباس رضي الله عنه: “الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا فإذا انقطعت وصاروا إلى الله تعالى استأنفوا في بكاء لا ينقطع عنهم أبدًا” (أخرجه ابن جرير وابن أبي شيبة بإسناد صحيح).
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع فكنت تظن أنك ملاقيَّ يومك هذا؟ فيقول: لا، قيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني» (أخرجه الترمذي بسند صحيح). وقال: معنى قوله: «اليوم أنساك كما نسيتني»: اليوم أتركك في العذاب.
علاج القلوب قبل علاج الأبدان:
إذا كان مرضى الأبدان يشخصون الداء ولا يزالون في متابعة مستمرة للمرض حتى يقضى عليه؛ فبطريق الأولى والأحرى يفعل ذلك مرضى الذنوب والآثام. إن استصلاح القلوب أهم وآكد من استصلاح الأبدان، وإذا كانت الحياة تنقلب عذابًا عند فساد الأبدان؛ فعذاب الآخرة أشد وأنكى لمن فسدت قلوبهم.
إن مجالات الذنوب والمعاصي في هذا الزمن واسعة، والداعي لها كثير، وسبل الطاعة ضيقة، والداعي لها قليل، فالفتن تلاحق الناس في أسواقهم وأعمالهم، وتملأ عليهم بيوتهم، وتفسد أولادهم ونساءهم، ولا يزال أهل الباطل يجرون عباد الله إلى باطلهم وسيستمرون، فماذا علمنا لدرء الشر عن أنفسنا وبيوتنا؟! إن عامنا يمضي وذنوبنا تزداد، وإن آخرتنا تقترب ونحن عنها غافلون إلا من رحم الله وقليل ما هم! نمنّ على الله بالقليل من الطاعات، ونواجهه بالكبائر والموبقات!! فهل ندرك أننا لا نزال غافلين؟!
جاء قوم إلى إبراهيم بن أدهم رحمه الله في سنة أمسكت فيها السماء وأجدبت فيها الأرض فقالوا له: استبطأنا المطر فادع الله لنا!! فقال: “تستبطئون المطر، وأنا استبطئ الحجارة”.
آثار الذنوب على الأمة:
بسبب الذنوب والمعاصي، وإصرار كثير من العباد عليها أصبحت أمة الإسلام مائدة ممدودة لكل طاعم، وصندوقًا مفتوحًا لكل آخذ، وقصة يحكيها كل شامت، نسوا الله فنسيهم، وتركوا أمره فسلط عليهم أعداءهم. أورثتهم الذنوب ذلًا ومهانة سكنت معها القلوب بل ماتت، ألفت العيون دموع اليتامى، واعتادت الآذن على أنات الأيامى، ولقد أصبح قتل المسلم الأعزل في كثير من الأقطار أمرًا سهلًا؛ بل ممتعًا يدعو للفرحة والنزهة من قبل الكافرين ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
والمصيبة أنه يصاحب هذا التسلط من الأعداء تفرق المسلمين؛ وتشتت أمرهم، واختلاف كلمتهم؛ فبعضهم يكره بعضًا، ويتباغضون أشد من بغضهم لأعدائهم في كثير من الأقطار والبقاع، فلماذا كل هذا؟! إن النظرة المتأنية لأسباب هذا الذل والهوان، وذلك الاختلاف والافتراق توجد قناعةً مفاداها أن الذنوب والمعاصي من أهم أسباب ذلك؛ بل هي السبب الرئيسي له.
ماذا قدمنا لأمتنا؟!
إن جميع المسلمين في الأرض لم يرضوا عن واقعهم المهين؛ لكن هل تحركوا لتغييره؟! كل فرد من الأفراد يتأسف ويأسى لواقع أمته، ولو تأملت حاله لوجدته سببًا من أسباب هذا الواقع!!
إن صلاح الأفراد فيه صلاح الأمم، وإن فسادهم فيه فسادها، إذا أصلح كل فرد نفسه ومن هم تحت يده، ونشر الإصلاح بين الناس على قدر جهده ووسعه صلحت الأمة بإذن الله تعالى، أما أن يكون كل فرد فاسدًا في نفسه مفسدًا لمن هم تحت يده إلا من رحم الله ويريد أن تصلح الأمة، وأن تعتز وتنتصر على أعدائها؛ فذلك من أبعد المحال، والله لا يصلح عمل المفسدين.
إن مشكلتنا تتخلص في أننا لا نحس بأننا سبب من أسباب انحدار أمتنا وتخلفها، ونتغافل عن كوننا جزءًا من أجزاء الأمة التي نريد صلاحها، وكل واحد منا يرمي باللائمة على الغير، ومن المضحك جدًا أن نلوم عدوّنا، ونجعله سبب مشاكلنا؛ لكي نتنصل من مسؤولياتنا، ونرتاح من تبعات التحليل والتدقيق، والمحاسبة والتقويم، فهل ندرك ذلك في نهاية عام نودعه وبداية عام نستقبله؟! ونفقه أن الأمة لن تصلح وتنتصر حتى يصلح كل فرد من أفرادها نفسه، وينتصر على أهوائه وشهواته؟! نرجو أن ندرك ذلك ونعقله.
وصل الله على نبينا وعلى آله وصحبه وسلـم.
Source link