الدنيا دار بلاء وابتلاء، وليست دار جزاء، فقد تجد الكافر منعَّمًا، والمؤمن معذَّبًا؛ فقد حاصر أبو جهل ومعه كفار قريش، محمدًا والمسلمين في وادٍ ضيق بين جبلين…
لماذا هذا الخراب والدمار؟
خلق الله سبحانه وتعالى الزلازل، وخلق هذا الرعب القاتل، لِحِكَمٍ جليلة، وفوائدَ عظيمة، في ميزان الحق جل جلاله؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:
1– الابتلاء والامتحان؛ لأن الله تبارك وتعالى خلقنا ليبتليَنا، ويختبرنا، ويمتحننا؛ قال تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، فهذا هو سبب خلق الحياة في القرآن الكريم؛ الامتحان، والاختبار، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
والعبادة هي كمال الحب، مع كمال الخضوع؛ فبعد رؤية مشاهد الدمار والخراب، أينا أشد حبًّا لله، وأينا أكثر خضوعًا، وأينا أكثر إيمانًا وتسليمًا بحكمة الخالق ورحمته.
٢- زلزال الدنيا صورة مصغَّرة للزلزال الأكبر يوم القيامة؛ قال تبارك وتعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 1 – 8].
فزلزال الدنيا صورة مصغرة للزلزال الأكبر، والرعب الأكثر، والهزة الأعظم، بين يدي الساعة يوم القيامة.
٣- تخويف العباد؛ ليتوبوا من ذنوبهم، ويكفُّوا عن ظلمهم، وينتهوا عن جرمهم، ويعودوا إلى ربهم، ونهج دينهم، ويستقيموا على سُنَّة نبيهم؛ قال تبارك وتعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، فمن خاف ربه، امتثل أمره، واجتنب نهيه، وأحب للناس ما يحب لنفسه.
٤- قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43].
فعلى العباد أن يتضرعوا لربهم، ويذلوا أنفسهم لخالقهم، ويعبدوه وحده، لا شريك له.
٥- الدنيا دار بلاء وابتلاء، وليست دار جزاء، فقد تجد الكافر منعَّمًا، والمؤمن معذَّبًا؛ فقد حاصر أبو جهل ومعه كفار قريش، محمدًا والمسلمين في وادٍ ضيق بين جبلين، من وديان مكة لمدة ثلاث سنوات كاملة، أكلوا فيها أوراق الشجر، فهذه طبيعة الطريق إلى الله رب العالمين؛ محنٌ وابتلاءات، بأساء وضراء؛ قال تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157].
٦- لماذا الزلزال يضرب المسلمين المستضعفين في سوريا وتركيا، ويترك الكفار مُتْرفين منعَّمين؟ هذا بالضبط ما حدث من كفار مكة مع محمد وصحبه؛ جاء في الحديث الشريف عن سعد بن أبي وقاص: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: «أشد الناس بلاء الأنبياءُ»، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة، ابتُليَ على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة)).
٧- الله سبحانه وتعالى أحن على العبد من الأم بولدها، وأحيانًا تقسو الأم على وليدها؛ حبًّا له، وحرصًا على نفعه، وصرفًا للضرر عنه.
8- كل شيء في هذا الكون بحكمة، والأمور تجري بدقة؛ قال تبارك وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
فتدبير أمور الكون يتم بحكمة متناهية، ودقة بالغة، قدرها الخالق سبحانه وتعالى، ولا يعلمها إلا هو جل جلاله.
٩- يقول ابن القيم رحمه الله:
لو كشف الله الغطاء لعبده، وأظهر له كيف يدبِّر الله له أموره، وأنه أرحم به من أمِّه، لذاب قلب العبد محبةً لله، ولتقطع قلبه شكرًا لله.
١٠- وأخيرًا رب العالمين سبحانه وتعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، سبحانه وتعالى وجب له كل كمال، وتنزه وتعالى عن كل نقص.
____________________________________________________
الكاتب: أ.د حلمي عبدالحكيم الفقي
Source link