الغفلة .. السلاح الفتاك – طريق الإسلام

الغفلة مِن الأمراض الفتَّاكة التي تَعصِف بالفرد، والتي حذَّرنا منها ربُّنا – عز وجل – في القرآن الكريم في سور متعددة، وحذَّرَنا مِن صور مُتعدِّدة أيضًا للغفلة؛ حتى يأخذ الإنسان حذرَه…

الغفلة مِن الأمراض الفتَّاكة التي تَعصِف بالفرد، والتي حذَّرنا منها ربُّنا – عز وجل – في القرآن الكريم في سور متعددة، وحذَّرَنا مِن صور مُتعدِّدة أيضًا للغفلة؛ حتى يأخذ الإنسان حذرَه، ويستيقظ قبل فوات الأوان، فما هي الغفلة؟ وما هي صورها وأشكالها في القرآن الكريم؟ وكيف عالَجها القرآن؟ وكيف عالَجها رسول القرآن محمد – صلى الله عليه وسلم؟

 

تعريف الغَفلة:

(غَفَل) عن الشيء غفلةً: سَها؛ مِن قلَّة التحفُّظ والتيقُّظ؛ فهو غافِل.

 

(والمُغَفَّلُ): مَن لا فِطنة له[2].

 

والغَفلة – كما أشار إليها العلماء – لها تَعريفات كثيرة، تُفهَم مِن كلامِهم، وتؤخَذ مِن تعبيراتهم.

 

الغفلة: عدم اكتِمال عقل الإنسان، وعدم تبصُّره بالعواقِب.

 

يقول ابن الجوزي – رحمه الله -: متى تكامَل العقل، فُقدِت لذَّة الدنيا، فتضاءَل الجسم، وقوي السقم، واشتدَّ الحزن؛ لأنَّ العقل كلما تلمَّح العواقب، أعرَض عن الدنيا، والتفَت إلى ما تلمَّح، ولا لذَّة عِنده بشيء مِن العاجل، وإنما يلتذُّ أهل الغفلة عن الآخِرة، ولا غَفلة لكامل العقل[3].

 

الغفلة: عدم يقظة القلب.

 

يقول ابن القيم – رحمه الله -:فأول منازل العبودية اليقظة، وهي: انزعاج القلب لروعة الانتِباه مِن رقدة الغافلين، ولله ما أنفَع هذه الرَّوعة، وما أعظم قَدرَها وخطَرها، وما أشدَّ إعانتها على السلوك! فمَن أحسَّ بها فقد أحسَّ – والله – بالفَلاح، وإلا فهو في سكَرات الغفلة، فإذا انتبه شمَّر لله بهمَّتِه إلى السفر إلى مَنازِله الأولى، وأوطانه التي سُبي منها:

 

صورها وأشكالها في القرآن الكريم:

وردتْ مادَّة (غَفَلَ) بمُشتقَّاتها في القرآن الكريم في أكثر من خمسة وثلاثين موضعًا، ولكن تظهر لنا أهمُّ صورها وأشكالها في:

1- اتباع الهوى والبُعد عن الله – عز وجل -:

وتُعتبَر هذه الصورة هي أكثر الصور التي يُعلِّق عليها القرآن الكريم، ويُصوِّرها للإنسان البعيد عن مولاه المُتَّبِع لهَواه؛ قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

 

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].

 

2 – قسوة القلب وعدم الخشية:

ويظهر ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].

 

وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108].

 

3 – عدم تذكر اليوم الآخِر:

قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

 

وقال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39].

 

وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].

 

وقال تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 97].

 

وقال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق: 22][5].

 

4 – تعطيل وسائل الإدراك:

قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

 

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8].

 

وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92].

 

وقال تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136].

 

وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17].

 

وقال تعالى: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل: 93][6].

 

5 – الظلم وبطر الحق:

قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].

 

وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42].

 

وقال تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131].

 

وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146][7].

 

كيف عالَج الإسلام الغفلة؟

مِن خِلال تدبُّرنا لآيات القرآن الكريم ولأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – يَظهر لنا أن الإسلام عالج هذا المرض من خلال:

• التذكير الدائم بالغاية التي مِن أَجلِها خُلِقَ الإنسان:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

 

وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

 

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

 

وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].

 

وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

 

كل هذه الآيات توجِّه نظرَ الإنسان إلى الغاية التي مِن أَجلِها خلَقه الله – تبارك وتعالى – ألا وهي: العبادة والطاعة لله في كل ما يَأمُر به، وإذا عاش الإنسان كما يُريده ربُّه – تبارك وتعالى – نَجَا الإنسان مِن هذه الغَفلة المُهلِكة.

 

• الدعوة الدائمة إلى التفكُّر في خلق الله:

دعانا الله – سبحانه وتعالى – إلى التفكُّر في مخلوقات الله – عزَّ وجل – ومِن هذه الآيات والأحاديث التي تدعو إلى ذلك:

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].

 

وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].

 

وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 – 20].

 

وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].

 

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185].

وقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].

 

ودعانا الله – سبحانه وتعالى – إلى النظر في النفس البشرية:

قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].

 

وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8، 9].

 

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].

 

وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

 

وفى الحديث الشريف:

عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: مرَّ النبي – صلى الله عليه وسلَّم – على قوم يتفكَّرون في الله، فقال:  «تفكَّروا في الخَلقِ ولا تَفكَّروا في الخالِق؛ فإنكم لا تَقدرونَ قَدره» ، وهذه هي الوسيلة الثانية التي عالَج بها الإسلام الغَفلة؛ عن طريق التفكُّر الدائم في هذا الكون مِن حولنا، والمَخلوقات التي خلَقها الله – عزَّ وجل – ومِن بَينها الإنسان الذي خلقه ربُّه في أحسن تقويم.

 

• الاعتبار بأحوال السابقين:

ففي آيات كثيرة يَدعونا ربُّنا – عز وجل – إلى الاعتبار بمَن قَبلنا، ومِن هذه الآيات قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 – 14].

 

وقال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 137، 138].

 

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9].

 

وقد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذا مَررتُم بديار الظالِمين، فأَسرِعوا، ولا تَدخُلوها إلا باكين».

 

ومِن هذه الآثار يتبيَّن لنا دعوة الله – تبارك وتعالى – إلى الاعتِبار بالأقوام السابِقين الذين أصابتهم الغَفلة حتى وصلوا إلى هذا الجزاء العظيم؛ {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].

 

• بيان قدْر الدنيا وحَقيقتِها:

أشار ربنا – سبحانه وتعالى – في القرآن الكريم إلى حقيقة هذه الدُّنيا؛ حتى لا يغترَّ الإنسان بوجوده فيها، فبيَّن الله – عز وجل – أن هذه الدنيا مَتاع وغُرور ولهو ولعب في أكثر من آية؛ فقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } ﴾ [الحديد: 20].

 

وقال تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51].

 

وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].

 

وبيَّن ربُّنا – تبارك وتعالى – أن هذه الحياة الدنيا دار اختبار وابتلاء من الله – عز وجل – قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2].

 

وورَد عن الصَّحابة الكرام وَصفُهم لهذه الدنيا:

قال علي – رضي الله عنه -: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم – ومشروب – وملبوس – ومركوب – ومنكوح – ومشموم؛ فأشرف المطعومات: العسَل، وهو مَذقَة مِن ذُباب، وأشرف المشروبات: الماء، ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوسات: الحرير، وهو نسيج دودة، وأشرف المركوبات: الفرس، وعليه يُقتَل الرجال، وأشرف المنكوحات: المرأة، وهي مَبالٍ في مَبالٍ، وأن المرأة لتُزيِّن أحسنَ شيء منها، ويُراد أقبَح شيء منها، وأشرف المشمومات: المِسكُ، وهو دمٌ.

 

وقال أبو الدرداء: مِن هَوان الدُّنيا على الله أنه لا يُعصَى إلا فيها.

 

بعد هذا، هل يَغفل الإنسان عن حقيقة الدُّنيا ويَغترُّ بها؟!

 

الدعوة إلى المُسارَعة إلى الخيرات:

قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

 

وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه} [الحديد: 21].

 

وقال – صلى الله عليه وسلم -: «بادِروا بالأعمال الصالحة؛ فستكون فِتنٌ كَقِطَع الليل المُظلِم، يُصبِح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويُمسي مُؤمِنًا ويُصبِح كافرًا، يَبيع دينه بعرَضٍ مِن الدُّنيا»؛ (رواه مسلم) .

 

وقال – صلى الله عليه وسلم -: «بادِروا بالأعمال سبعًا؛ هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غنًى مُطغِيًا، أو مرَضًا مُفسِدًا، أو هَرَمًا مُفنِّدًا، أو موتًا مُجْهِزًا، أو الدجَّال، فشرُّ غائب يُنتظَر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمرُّ» ؟))؛ (رواه الترمذي) ، وقال: حديث حسن.

 

التذكير الدائم بالآخِرة:

لا تكاد سورة من سور القرآن تخلو مِن ذِكر الآخِرة والحِساب والعَرضِ على الله – عز وجل – قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39].

 

وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].

 

وقال تعالى – في بيان ما هو خير مِن الدنيا -: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15].

 

وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25].

 

• بيان أن النفس الغافِلة ممقوتة لا تَستحِق أن تُذكَر:

إذا تتبَّعنا آيات القرآن الكريم التي تتحدَّث عن النفس الإنسانية، وَجدْنا أن الله – عز وجل – ذكَر للإنسان نفوسًا ثلاثة، وهي:

النفس المطمئنة:

قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 30].

 

النفس اللَّوامة:

قال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1، 2].

 

النفس الأمَّارة بالسوء:

قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].

 

والسؤال: أين النفْس الرابِعة؟ أين النفس الغافِلة؟

والإجابة: لم يذكرها المولى – تبارك وتعالى – لأنها لا تستحِقُّ أن تُذكَر؛ لهُبوطِها وحَقارتها ودُنوِّ مَنزلتِها عند الله – عزَّ وجل.

 

في موضع آخَر عندما تكلَّم القُرآن عن قصة أصحاب السبت، ذكر الله – عز وجل – القصة فقال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 163، 164]، ذكرت هذه الآيات أن هناك فِرَقًا ثلاثًا، وهي:

• الفرقة المُعتَدِية على حدود الله.

• الفِرقة الواعِظة.

• الفِرقة الغافِلة.

 

ولكن عندما ذكر الله – عز وجل – جزاء كل فرقة، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165، 166].

 

والسؤال: أين الفِرقة الغافِلة؟ لماذا لم يَذكُر الله – عز وجل – جزاءها؟

والإجابة: إن النفوس الغافلة لا تَستحِق أن تُذكَر في كتاب الله – عز وجل.

 

هذا موجز قصير عن قصَّة (الغفلة) التي ذكرَتْها الآيات والأحاديث، والتي حذَّرتْنا أن نكون مِن الغافِلين في هذه الحياة، وكما قال – صلى الله عليه وسلم -: «الكيِّس مَن دان نفسه وعمِل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتْبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني»؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن) .

 


[1] – نشرت على موقع منارات بتاريخ: 1/9/2010.

[2] – المعجم الوجيز (ص:452).

[3] – صيد الخاطر؛ ابن الجوزي.

[4] – تهذيب مدارج السالكين؛ ابن القيم.

[5] – المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم؛ محمد فؤاد عبدالباقي.

[6] – المرجع السابق.

[7] – المرجع السابق.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

تفسير: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن..)

الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *