أيها المسلمون عباد الله، عامٌ مضى، وعام أتى، والمؤمن لا يحتفل بأعوام قد مضت، أو أخرى قد أقبلت بقدر ما يقف مع نفسه وقفة محاسبة، فيحاسبها عمَّا قدَّم وأخَّر؛ (محاسبة ومشارطة).
بداية نتعرف على التاريخ الهجري كيف كان مبدؤه وأهميته:
• إن التاريخ السنوي لم يكن معمولًا به في أول الإسلام، فكانوا يؤرخون بالأحداث لا بالأرقام؛ مثل: عام الرمادة، وعام حرب البسوس، وعام الفيل.
حتى كانت خلافة عمر رضي الله عنه وبعد ثلاث سنوات من خلافته، ومع اتساع رقعة البلاد الإسلامية، احتاج المسلمون أن يؤرخوا لرسائلهم وكتاباتهم، وأن يؤرخوا للعقود والقروض فيما بينهم؛ فقد كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: “إنه يأتينا منك كتب ورسائل ليس لها تاريخ”.
• فجمع عمرُ الصحابةَ رضي الله عنهم ليستشيرهم من أين يبدؤون التاريخ؟ فقال بعضهم: أرخوا كما تؤرِّخ الفرس بملوكها، كلما هلك مَلِكٌ، أرَّخوا بولاية من بعده، فكرِه الصحابة ذلك، وقال بعضهم: أرخوا بتاريخ الروم فكرِهوا ذلك أيضًا، وقال بعضهم: أرخوا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: من مبعثه، وقال آخرون: من هجرته، فقال عمر: نؤرخ من الهجرة؛ لأن الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها، وجعلوا مبتدأ التاريخ من السنة التي تمت فيها الهجرة.
• ثم تشاوروا من أي شهر يبدؤون السنة؟ فقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن، وقال بعضهم: من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي قدِم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا، واختار عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم: أن يكون من المحرم؛ لأنه من الأشهر الحرم وهو بعد شهر ذي الحجة الذي يؤدي فيه المسلمون حَجَّهم الذي به تمام أركان الإسلام، والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الهجرية من شهر الله المحرم.
الوقفة الثانية: أهمية التأريخ بالتاريخ الهجري:
1- التاريخ الهجري وأشهر السنة الهجرية هي التي عند الله تعالى وذكرها في كتابه.
• قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36].
• وروى الإمام أحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته، فقال: «ألَا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض؛ السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات: ذو القَعدة، وذو الحِجَّة، والْمُحرَّم، ورجب مُضَرَ الذي بين جُمادى وشعبانَ».
2- وقد جعلها الله تعالى ميقاتًا للعالم كله، لا فرق بين عرب ولا عجم.
• قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].
3- وكذلك لأن لها علاماتٍ محسوسةً ظاهرة لكل أحد، يستطيع رؤيتها، فيعرف بها دخول الشهر وخروجه.
• فمتى رُئِي الهلال أول الليل وبعد غروب الشمس، دخل الشهر الجديد، وخرج الشهر السابق.
4- وكذلك فإن الأشهر الهجرية جعلها الله تعالى ميقاتًا للفرائض والأركان.
• فالصيام اختص الله تعالى له من بين هذه الأشهر شهرَ رمضان: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
• والحج اختص له أشهر الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
• وزكاة الأموال والأنعام وعروض التجارة، التي من شروطها بلوغ النصاب، وكذا حلول الحَول، ويكون بالأشهر الهجرية.
5- وكذلك ترجع أهمية معرفة الشهور الهجرية والتاريخ بها أن كثيرًا من كفَّارات الصيام يكون حسابها بالأشهر الهجرية؛ مثل: كفارة القتل الخطأ، وكفارة الظِّهار: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92].
6- وهو من شعائر الإسلام التي يجب أن تُغرَس في النفوس؛ ولذلك كانت من الأسباب التي أدت لترك التأريخ بالتاريخ الهجري هو استعمار البلاد الإسلامية والعربية من الغرب، فأرغموهم وأجبروهم على ترك ونسيان التاريخ الهجري، حتى أصبح الآن لا يؤرَّخ به إلا في بلاد الحرمين الشريفين.
نسأل الله العظيم أن يعيد لهذه الأمة مجدَها، وأن يجعل هذه السنة خيرًا وبركة للإسلام والمسلمين.
• أيها المسلمون عباد الله، عامٌ مضى، وعام أتى، والمؤمن لا يحتفل بأعوام قد مضت، أو أخرى قد أقبلت بقدر ما يقف مع نفسه وقفة محاسبة، فيحاسبها عمَّا قدَّم وأخَّر؛ (محاسبة ومشارطة).
• محاسبة لِما مضى.
• ومشارطة لِما هو آتٍ.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
قال عمر رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].
• ومعنى محاسبة النفس: أن يتصفح العبد ما صدر منه من أفعال وأقوال؛ فإن كانت محمودة أمضاها، وإن كانت مذمومة استدركها.
ومن فوائد المحاسبة:
1- أن يعرف العبد حقَّ الله تعالى عليه، ثم يسأل نفسه: هل قام بهذا الحق كما ينبغي أم لا؟
2- مطالعة عيوب النفس لتلافيها ومعالجتها؛ فمن لم يطلع على عيوبه لم يمكنه إزالتها.
وحتى تُؤتِيَ المحاسبة ثمارَها المرجوَّةَ؛ لا بد أن تعرف هذه القواعد المهمة للمحاسبة:
ما هو رأس المال؟
ما هي أسباب الأرباح؟
ما هي أسباب الخسران؟
• قال ابن القيم رحمه الله في طريقة محاسبة النفس: “وجِماعُ ذلك أن يحاسب نفسه أولًا عن الفرائض، فإن تذكَّر فيها نقصًا، تداركه إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها عن المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية”.
• فأما رأس المال، فهي الفرائض والواجبات.
• وأوجب الواجبات هو التوحيد الذي هو حق الله تعالى على العبيد؛ فهو الميثاق الذي أخذه الله تعالى من ذرية آدم وهم في أصلاب آبائهم.
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].
• فيحاسب العبد نفسه؛ حذرًا وخوفًا من الوقوع في الشرك؛ حتى لا يخسر دنياه وآخرته.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
• ثم يحاسب نفسه على الصلوات الخمس؛ لئلا يكون فيها نقص أو تقصير؛ لأنه سيُحاسَب عليها يوم القيامة.
ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ أولَ ما يُحاسب به العبدُ المسلمُ يومَ القيامةِ الصلاةُ المكتوبة، فإن أتمَّها، وإلا قيل: انظروا هل له مِنْ تطوُّعٍ؟ فإن كان له تطوُّع، أُكملت الفريضةُ مِنْ تطوُّعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك».
فيحاسب العبد نفسه على:
1800 صلاة طوال العام، كم منها في أوقاتها جماعة؟ وكم ضيع منها؟
1800 فرصة لدخول الجنة بقراءة آية الكرسي دُبُرَ كل صلاة مكتوبة.
1800 فرصة لدعوة مستجابة عقب كل أذان.
1800 فرصة لإدراك تكبيرة الإحرام.
ويحاسب العبد نفسه على صلاة الجمعة:
أكثر من 48 فرصة للصلاة والسلام على خير الأنام في أفضل الأيام، فكم جعل لنفسه من هذا الخير العظيم؟
أكثر من 48 فرصة لقراءة سورة الكهف يوم الجمعة؛ ليحظى بالنور والخير العظيم، فكم أدركت من ذلك؟
أكثر من 48 فرصة ساعة إجابة آخر ساعة من يوم الجمعة، فكم أدرك من هذه الساعات؟
• وأما أسباب الأرباح، فهي النوافل وأبواب الخير والقربات التي ترفع العبد درجات؛ فيحاسب العبد نفسه على قراءة القرآن، وهل له ختمة شهرية لكتاب الله تعالى أم لا؟
12 ختمة قرآن.
360 أذكار صباحٍ ومساء.
360 صلاة ضحى.
360 بيت في الجنة (الرواتب).
كم مجلس علم حضره؟
كم حلقة قرآن حضرها؟
كم تصدقت؟
كم ذكرت الله تعالى؟
• وأما أسباب الخسران، فهي كل معصية أو تضييع لواجب من الواجبات؛ فيحاسب العبد نفسه على الذنوب والمعاصي والتفريط قبل الندم.
• لما تم لبعض السلف سبعون سنة من عمره، وقف مع نفسه وقفة محاسبة، فنظر فإذا به قد مضى عليه منذ بلوغه أكثر من عشرين ألف يوم، فعاتب نفسه، وقال: ماذا لو لقيت ربي كل يوم بذنب واحد فقط؟! أألقى الله بعشرين ألف ذنب؟ ثم بكى رحمه الله.
• فيسارع العبد بالتوبة إلى الله تعالى، وكثرة الاستغفار، والحسنات المكفِّرة، ويأخذ بأسباب المغفرة، قبل أن يلقى الله تعالى؛ فيندم شديد الندم على التضييع والتفريط.
قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 9، 10].
نسأل الله العظيم أن يغفر لنا تقصيرنا، وأن يوفِّقنا لِما يحب ويرضى.
_______________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي
Source link