لأهمية هذا الوقت وضرورة استثماره أقسم الله عز وجل بالعصر وبالفجر وبالضحى وبالنهار وبالليل، فكل هذا من الزمان الذي يجب علينا استغلاله في المفيد.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني لا أكره أن أرى أحدكم سبهللًا) (فارغًا) لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.
وقال ابن هبيرة:
والوقتُ أنفسُ ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهلُ ما عليك يضيع
من خلال القولين السابقين ندرك كراهية عمر رضي الله عنه للفراغ، ويؤكد ابن هبيرة أن الوقت نفيس يجب الحرص عليه، وهو أسهل ما يُفرِّط فيه الإنسان، ولأهمية الوقت نُخصِّص الكلام في هذه الخطبة للتذكير بقيمته، ونحذر من ضياعه.
عباد الله، يجب علينا أن نعلم جميعًا أن الإسلام يعتبر الفراغ نعمةً يُفرِّط فيها الكثير من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: «نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» [1]، فلا يعرف قيمة نعمة الصحة إلا من ابتُلي بمرض، كما أنه لا يعرف قيمة الفراغ إلا من أصبح في شغل دائم؛ ولذلك أمر الإسلام، بالتهيُّؤ لعمل آخر فور الانتهاء من عمل قديم، قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]؛ أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة[2]، واعتبر الإنسان في هذه الحياة كادحًا حتى يلقى ربه، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]؛ ولذلك أتعجَّب من البعض حينما تريد أن تبرم معه موعدًا، فيقول لك: (فوقاش بغيتي، ما عندي شغل الحمد لله)، أو يقول: (ما عندي ما يدار!)، ألهذا الحد أصابتنا البطالة فارغين من أي شغل، ومن أي هدف في الحياة، نمضي بدون تخطيط، نعيش حياة العبث، والله عز وجل يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116].
فلأهمية هذا الوقت وضرورة استثماره أقسم الله عز وجل به في غير ما آية، فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2]، وقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 1 – 4] وقال: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1، 2] وقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا *وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 1 – 3]، فأقسم بالعصر وبالفجر وبالضحى وبالنهار وبالليل، فكل هذا من الزمان الذي يجب علينا استغلاله في المفيد.
وحثَّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم على اغتنام أوقاتنا فقال: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» [3]؛ أي: اغتنم لحظة فراغك قبل أن تشغل.
وهكذا كان دأب السلف الصالح، قال الحسن البصري: أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم على دراهمكم ودنانيركم[4]، وقد روي من سيرهم العجب العجاب في الحفاظ على أوقاتهم، فتركوا المصنفات الكثيرة والعلوم النافعة، فهذا البيروني(ت440) لا يكاد يفارق يده القلم وعينه النظر، وقلبه الفكر، وكان يتقن خمس لغات: العربية والسريانية والسنسكريتية والفارسية والهندية، وترك من المؤلفات في مختلف المجالات ما زاد على مئة وعشرين مجلدًا، وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرَّقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، وأين نحن من السلف الصالح وقد أصبحنا نرى:
• من ينام الساعات الطوال، فانقلب عنده النهار إلى ليل، وفي الليل يسهر على المنكرات عوض السهر لقيام الليل، أو طلب العلم.
• نرى من يجلس مع هاتفه الذكي أو أمام شاشة التلفاز أو الحاسوب منشغلًا بإفناء العمر في المباريات الكروية والمسلسلات الهابطة وتصفُّح مواقع التواصل، فأضاع الصلوات وأهمل مراجعة دروسه بل أضاع حقوقًا كثيرةً انشغل عنها.
• نرى من يمضي وقته مع رفاقه في المقهى أو على قارعة الطريق صباح مساء، يقتل -زعمًا منه- الوقت وإنما الوقت هو الذي يقتله، يتجاذبون أطراف الحديث في القيل والقال والغيبة والنميمة، واستراق النظر، ولم يعطوا الطريق حقه، قال صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكم والجلوس في الطُّرُقات» قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها قال صلى الله عليه وسلم: «فأما إذ أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه» ، قالوا: يا رسول الله، فما حق الطريق؟ قال: «غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» [5].
عباد الله،اعرفوا لهذا الوقت أهميته فلا تُضيِّعوه إلا فيما يفيد، وخاصةً في أوقات العطل، واعلموا أنكم محاسبون على الأعمال التي عمرتم بها أوقاتكم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
واعلموا أن الله عز وجل ذكر موقفين عظيمين يندم فيهما الإنسان على ضياع الوقت، ويعلم أنه كان مغبونًا خاسرًا في حياته:
الموقف الأول: ساعة الاحتضار؛ حينما ينزل الموت بالعبد المفرط، فيقول: {رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] يتمنى تأخير الأجل ولو قليلًا من الوقت؛ ليعمل العمل الصالح ولكن هيهات {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11].
الموقف الثاني: في يوم القيامة؛ حينما يقول المفرط في جنب الله حين يرى العذاب: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 58]، ويقول عموم المفرطين: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]، والندم ليس حاصلًا للمفرطين فقط، بل حتى العاملون يندمون، حينما يرون من هو أعلى منهم درجات، لماذا لم يزدادوا عملًا؟ قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَــــــــــهُ ** إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فارفَعْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوتِكَ ذِكرَها ** فَالذِّكْرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني
فاللهم إنا نعوذ بك من الغبن في أوقاتنا، آمين؛ (تتمة الدعاء).
[1] رواه البخاري برقم: 6412. [2] مختصر تفسير ابن كثير، محمد علي الصابوني: 2/ 653. [3] رواه النسائي في الكبرى برقم:11832، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: 1077. [4] انظر: قيمة الزمن عند العلماء، عبدالفتاح أبو غدة:27، وموارد الظمآن لدروس الزمان، عبدالعزيز السلمان: 4/ 626. [5] رواه مسلم برقم: 2121.
__________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت
Source link