وقفات مع شهر الله المحرم ويوم عاشوراء

إن شهر الله المحرم شهرٌ عند الله تعالى عظيمٌ، والعمل فيه كريم، ولذا فقد اختُصَّ بخصائص تدل على منزلته وفضله، ومنها:

إن شهر الله المحرم شهرٌ عند الله تعالى عظيمٌ، والعمل فيه كريم، ولذا فقد اختُصَّ بخصائص تدل على منزلته وفضله، ومنها:

1- أن الصيام فيه هو أفضل الصيام بعد رمضان؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «أَفْضَلُ الصِّيامِ، بَعْدَ رَمَضانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ، وأَفْضَلُ الصَّلاةِ، بَعْدَ الفَرِيضَةِ، صَلاةُ اللَّيْلِ».

 

2- وهو أيضًا من الأشهر الحرم التي يُعظَّم فيها العملُ أمرًا ونهيًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿  {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}  ﴾ [التوبة: 36]، وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:  «السنة اثنا عشر شهرًا؛ منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».

 

قال قتادة رحمه الله: “إن الله اصطفی صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفی من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظَّم الأمور بما عظَّمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل”.

 

•‏ وسُمي المحرم بذلك لكونه شهرًا محرمًا وتأكيدًا لتحريمه.

 

3- ومن فضائله وخصائصه إضافته إلى الله تعالى إضافة تعظيم وتشريف، فيقال: شهر الله المحرم، والمراد به جميع الشهر.

 

•‏ قال ابن رجب رحمه الله: “ولما كان هذا الشهر مختصًّا بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافًا إلى الله تعالى – فإنه له من بين الأعمال، فناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام”.

 

4- وهو الشهر الذي اختاره الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه ليكون أول السنة الهجرية:

•‏ ففي خلافة عمر رضي الله عنه وبعد ثلاث سنوات من خلافته، ومع اتساع رقعت البلاد الإسلامية، واحتاج المسلمون أن يؤرخوا لرسائلهم وكتاباتهم، وأن يؤرخوا للعقود والقروض فيما بينهم، فقد كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: “إنه يأتينا منك كتبٌ ورسائل ليس لها تاريخ”.

 

•‏ ‏ فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم ليستشيرهم من أين يبدؤون التاريخ؟ فقال بعضهم: أرِّخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملك أرَّخوا بولاية من بعده، فكرِه الصحابة ذلك، وقال بعضهم: أرخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، وقال بعضهم: أرِّخوا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: من مَبعثه، وقال آخرون: من هجرته، فقال عمر: نؤرِّخ من الهجرة؛ لأن الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، فأرَّخوا بها وجعلوا مبتدأ التاريخ من السنة التي تمت فيها الهجرة.

 

•‏ ‏ ثم تشاوَروا من أي شهر يبدؤون السنة؟ فقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن، وقال بعضهم: من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا، واختار عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أن يكون من المحرم؛ لأنه من الأشهر الحرم وهو بعد شهر ذي الحجة الذي يؤدي فيه المسلمون حجهم الذي به تمام أركان الإسلام، والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم، والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الهجرية من شهر الله المحرم.

 

5- ومن أعظم فضائله أن فيه يوم عاشوراء، (وهو اليوم العاشر منه)، ذلكم اليوم العظيم الذي نجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام، وأغرق فرعون وجنده، وفرق فيه بين الحق والباطل.

 

•‏ ‏ وقد صامه موسى عليه السلام وقومه شكرًا لله تعالى، وصامه اليهود من بعده، ولما قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا وجد اليهود يصومونه، فقال:  «ما هذا الصوم الذي تصومونه» ؟))، قالوا: إنه يوم أعز الله فيه موسى وقومه، وأذل الله فيه فرعون وقومه، وقد صامه موسى عليه السلام، فنحن نصومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  «نَحْنُ أَحَقُّ وأولى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فصامه وأمر بصيامه، وفى رواية:  «هذا يوم صالح»، وفي رواية:  «هذا يوم عظيم»؛ ‏لأن النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه أولى الناس بالأنبياء السابقين؛ كما قال تعالى: ﴿  {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ * وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}  ﴾ [آل عمران: 68، 69].

‏فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أحقُّ وأَولى بموسى من اليهود؛ لأنهم كفروا به وحرفوا وانحرفوا.

 

•‏ ‏ وقيل أيضًا: إنه اليوم الذي أنجى الله فيه نوحًا عليه السلام وقومه، واستوت فيه السفينة على الجودي؛ كما في رواية الإمام أحمد وزاد:  « «وهو الذي استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح شكرً» ا».

 

•‏ ‏ وهو يوم جليل قدره حتى عند أهل الجاهلية، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام فزاده فضلًا وقدرًا، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: “كان عاشوراءُ يومًا تَصومهُ قريش في الجاهلية، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدِمَ المدينةَ صَامَهُ وأمرَ بصيامه، فلما فُرِضَ رمضانُ كان مَن شاءَ صامه ومن شاء تركه”.

 

•‏ ‏ فكان صيامه في أول الأمر على الوجوب، ثم نسخ بفرض رمضان.

 

وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضل صيام يوم عاشوراء بأنه يكفِّر ذنوب سنة كاملة، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله)).

 

•‏ وذكر ابن رجب رحمه الله في كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من وظائف قال: “ومن أعجب ما ورد في عاشوراء أنه كان يصومه الوحش والهوام”.

 

•‏ ‏ وقد رُوي مرفوعًا أن الصرد أول طير صام عاشوراء؛ [ (أخرجه الخطيب في تاريخه، وقد روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه) ].

 

•‏ ‏ ورُوي عن أحد الزهاد قال: “كنت أفت للنمل الخبز كل يوم، فلما كان يوم عاشوراء لم يأكلوه!”.

 

ومما يحثنا على صيام يوم عاشوراء:

1- عموم النصوص التي تبيِّن فضل وثواب الصيام، فلو أنك تأملت النصوص في فضل الصيام، لوجدت أنه يستوى فيها صيام النافلة وصيام رمضان.

•‏ فباب الريان لمن أكثر من الصيام فرضًا ونفلًا.

•‏ ‏ وشفاعة الصيام كذلك.

•‏ ‏ وغيرها من النصوص في فضل الصيام.

«عليك بالصوم فإنه لا عدل له».

«كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به».

•‏ وغيرها من صور التكريم التي يحظى بها الصائم فلم تفرق بين فرض أو نافلة.

 

2- المتابعة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في صومه ومداومته عليه، مما جعل صيامه سنة مؤكدة.

 

3- أنه اليوم الذي أعز الله فيه التوحيد وأذل الكفر وأهله، بإعزاز نبيه موسى عليه السلام، وإذلال فرعون الذي عاند الله تعالى وجحد ربوبيته، ففي الحديث:  «فصامه موسى شكرا لله تعالى».

 

4- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدَع صيامه حتى مات، ويتأكد هذا بما رواه أحمد والنسائي عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر”.

 

5- ومما يحثنا على صيامه ما ورد في فضل صيامه من الأجر العظيم من تكفير ذنوب سنة كاملة، وكلنا في حاجة إلى هذه المغفرة في إدبار كل عام وإقبال آخر.

 

مراتب صيام عاشوراء:

1- إفراده وحده بالصوم، فقد ورد فيه فضل عظيم كما تقدم.

•‏ لكن كرِه بعض أهل العلم إفراده ورخَّص آخرون؛ قال ابن باز رحمه الله: “إن إفراده بالصوم مكروه للنهي عن التشبه باليهود”.

 

•‏ وقد وردت النصوص الكثيرة في النهي عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم:

«خالِفوا المشركين أَحْفُوا الشوارب وأَوْفوا اللحى».

«فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر».

«إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم».

«خالفوا اليهود والنصارى، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم».

 

•‏ ومنها النهي عن التطوع وقت طلوع، وغروب الشمس لعدم مشابهة الكفار في السجود لها.

 

•‏ ‏ بل بلغت مبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في مخالفة اليهود أنهم قالوا عنه: “مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ”.

 

2- صيام يوم قبله: وهو اليوم التاسع وهذا الذي تمناه النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله إن عاش إلى العام القادم لكنه مات قبله.

•‏ قال بعض أهل العلم: ومن المستحب للمسلمين أن يجمعوا بين صيام اليوم التاسع مع يوم عاشوراء، وذلك لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما لَمَّا صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنَّه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال:  «إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع»، قال: فلم يأت العام المقبلُ حتى توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وفي رواية:  «لئن بقيت إلى قابلٍ لأَصومنَّ التاسع»، ولا تنسَ أن تنوي بذلك مخالفة اليهود لتحظى بالأجر بإذن الله تعالى.

 

3- صيام يوم بعده: وهو اليوم الحادي عشر؛ لئلا يفرده بالصيام وعدم مشابهة اليهود.

 

4- أما أكمل المراتب، فقد ذكر العلماء صيامَ يومًا قبله ويومًا بعده؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا عند أحمد وابن خزيمة وغيرهم، وحسَّنه بعض العلماء وضعَّفه آخرون:  «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوما وبعده يومًا»، وفي رواية:  «أو بعده يومًا».

نسأل الله العظيم أن يُعيننا على صيام يوم عاشوراء، وأن يجعلنا من المقبولين.

_________________________________________________________________

الكاتب: رمضان صالح العجرمي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *