إن في تقلب الليل والنهار وتحول الفصول عبرة وعظة لنا، كما قال ربنا تبارك وتعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}..
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
أخي الكريم:
إن في تقلب الليل والنهار وتحول الفصول عبرة وعظة لنا، كما قال ربنا تبارك وتعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [النور:44]، وقال جلّ شأنه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]، قال بعض السلف: “من عجز بالليل؛ كان له في أول النهار مستعتب (أي فرصة للاعتذار والاستغفار)، ومن عجز عن النهار؛ كان له في الليل مستعتب”. وإذا كان مثل هذا في الليل والنهار، فهو أيضاً في تعاقب الفصول التي هي أيام وليال، فإنّ فيها عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين، جعلنا الله وإياك منهم.
أخي الحبيب:
حديثي إليك في هذه الأسطر عن فصل من هذه الفصول، ولعلك عرفته من خلال عنوان هذه الوريقات التي بين يديك، نعم، إنه فصل الصيف، هذا الفصل الذي يُذكّر حرّه بأمور كثيرة، منها:
تذكّر قولِ النبي كما في (الصحيحين): «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب آكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم»، فالمؤمن يتذكر النار عند رؤيته لأمور كثيرة منها: تذكره لها كلّما لفحته رياح الصيف، وألهبت وجهه الناعم بحرّها، ويقول في نفسه: “إذا كان هذا من نفس جهنم، فكيف بجهنم نفسها، عياذاً بالله تعالى منها”.
وإذا كنا أخي الحبيب لا نحتمل نار الدنيا؛ وهي جزء من تسعة وستين جزءاً من نار الآخرة، فما الشأن في نار الآخرة، ولذا قال بعض السلف: “لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا، لقالوا فيها ألفي عام”. يعني أنهم ينامون فيها ويرونها برداً.
ومن ذلك: تذكّر أحوال السلف الصالح رحمهم الله الذين كانت قلوبهم حية، نعم أخي، فكل ما يرونه ويشاهدونه في الدنيا يذكرهم بالآخرة، ومن ذلك أن بعض السلف كان إذا شرب الماء البارد في الصيف بكى وتذكر أمنية أهل النار حينما يشتهون الماء، فيحال بينهم وبينه، ويقولون لأهل الجنة: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف:50].
ومن ذلك، أن بعض السلف كان إذا دخل الحمام في الصيف، وشعر بحر المكان تذكّر النار، وتذكّر يوم تطبق النار على من فيها وتوصد عليهم، ويقال لهم: “خلود فلا موت”، فإذا خرجوا من الحمام؛ أحدث ذلك التذكّر لهم عبادة.
ومن ذلك أيضاً، أن بعض الصالحين صبّ على رأسه ماءً من الحمام فوجده شديد الحر، فبكى وقال: ذكرت قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 29]، فلا إله إلا الله ما أشد تذكّرهم، وما أعظم اعتبارهم. ورأى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى، ثم أنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار، يخاف الشين والشعثـا
ويألف الظلّ كـــي تبقـــي بشاشتــه *** فسوف يسكن يــوماً راغماً جدثــا
فـــي ظــــلّ مقفرة غبـــراء مظلمـة *** يطيل تحت الثرى في غمّها الليثا
تجهّــــزي بجهـــاز تبلغيـــــن بـــه *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حرّ الظهيرة، يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم يوم الجمعة.
أخي الحبيب:
وليس هذا فحسب، فَهم رضي الله عنهم رغم انعدام وسائل التكييف والراحة -التي ننعم بها في زماننا والحمد لله- إلا أنّ ذلك لم يقطعهم عن طاعة من الطاعات، مهما كانت مشقتها على النفس، ومن تلك الطاعات التي كانت لا تنقطع في مثل هذه الحال: الجهاد في سبيل الله تعالى؛ ولعل أول ما يخطر في بالك تلك الغزوة العظيمة (غزوة تبوك)، التي خرج فيها سيد الخلق -بأبي هو وأمي- ومعه أصحابه رضي الله عنهم في شدة الحر، والتي لم تمنعهم عن النفير في الجهاد، لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولكنها منعت المنافقين الذين قالوا كما أخبر الله عنهم: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، فجاءهم الجواب المناسب لمقالتهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]، أما من تخلف من الصحابة الصادقين بغير عذر، فقد تاب الله عليهم بعد ذلك في قصة مشهورة.
أخي الحبيب:
بعضنا يعجز عن مجاهدة نفسه على القيام ببعض الطاعات، وهو منطرح على فراشه الوثير تحت المكيف، آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده من ألوان الطعام الشيء الكثير، ومع ذلك يتثاقل عن صلاة الفجر جماعةً مع المسلمين، أو يتكاسل عن القيام بحقوق الوالدين، وصلة الأرحام.. إلى غيرها من أبواب الخير، أو يظن بمثل هؤلاء أن يجاهدوا أعداء الأمة، وهم لم يستطيعوا جهاد أنفسهم.
ومن ذلك أيضاً حرصهم على الصيام في الصيف لعظيم ثوابه، ولهذا كان معاذ بن جبل وغيره من السلف رضي الله عنهم يتأسف عند موته على.. أتدري على ماذا، أتظنه أسف عن قصر لم يشيّده، أم تراه أسف على صفقة تجارية لم يربحها، أم على امرأة حسناء لم ينكحها؟ كلا، لا هذا ولا ذاك، بل أسف على ظمأ الهواجر، ولهذا كان بعض الصالحين يحرص على صيام أشد أيام الصيف حرًا، فيقال له في ذلك، فيقول: “إن السعر إذا رخص، اشتراه كل أحد وهذا وربّي من علو الهمة“.
فيا عبدالله:
جاهد نفسك على هذه الطاعة العظيمة، التي اختصها الله سبحانه من بين العبادات بقوله: «الصوم لي وأنا أجزي به»كما في (الصحيحين)، جاهدها ولو يوماً في كل عشرة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وإنّ ألم العطش في اليوم الحار سيذهب في أول شربة ماء، أما أجره؛ فأرجو الله تعالى أن تناله، بل وتسرّ به يوم يقال في الدار الآخرة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]، ويوم ينادى الصائمون، ليقال لهم: ادخلوا من باب الريان.
أخي:
إن صيام الفرض يشترك معك فيه كل رجل من المسلمين، فأين همتك العالية؟ أين همتك التي لا ترضى بالوقوف عند الفرض في أعمال الخير؟ أين سلفك الصالح مع حرصهم على إتقان الفرائض لم يكونوا يتوقفون عندها؟ بل سَمت هممهم إلى الذروة في المسابقة إلى الخيرات، لأنهم يعلمون أن سلعة الله ـوهي الجنةـ غالية، وأن دخولها وإن كان لن يتمّ إلا برحمة الله تعالى، إلا أن العمل سبب لذلك: ومن يطلب الحسناء؛ لم يغلها المهر.
أخي الحبيب:
إن بعض الناس ربما هرب في الإجازة الصيفية، من الحر الشديد الذي يصطبغ به جو الجزيرة العربية، ربما هرب إلى أماكن باردة، أو معتدلة، وهذا لا محذور فيه، إذا كان ذلك السفر مضبوطاً بضوابط الشرع، إلاّ أنّ الملاحظ أن بعض الناس -هداهم الله- يظن أنه بسفره للخارج قد خرج عن مراقبة الله، فتراه يقتحم النار بأفعاله: نظر محرّم، سماع محرّم، مراقص، مشروبات محرّمة، فواحش والعياذ بالله.
فإلى أولئك الفارين من الحر، والواقعين في أسباب غضب الربّ جلّ جلاله يقال لهم: إلى أين تفرون؟ ومن أي شيء تهربون؟ إنّ المنافقين عصوا الله تعالى بجلوسهم في ظلال المدينة هرباً من الحرّ، وتركهم رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم في حرّ الرمضاء استعداداً لقتال العدو، فياليتكم ـ معاشر الفارّين ـ تحوّلون هروبكم من الحر خارج البلاد إلى جهاد في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، ونشر الإسلام بصورته الصحيحة، كما خرج قدوتكم وحبيبكم للجهاد وقتال أعداء الله، ونشر الإسلام بين الناس، ليسعدوا به كما سعدت به أنت، وسعد به أهلك وعشيرتك.
إنّ الجهاد الذي نطالبك به، لا يحتاج إلى حمل السلاح الثقيل، ولا يحتاج إلى خبرة بأساليب الحرب، بل هو جهاد بالقدوة الحسنة التي تترجمها بأخلاق الإسلام، والبعد عن المحرمات، وجهاد بالكلمة الطيبة، في دعوة من تلاقيه من الناس ـفي أي أرض تذهب إليهاـ مسلماً كان أم كافراً، كل حسب ما يناسبه.
ولعلك تعتذر بأنك لست من حملة العلم الشرعي، أو لست من الدعاة، وما هذا أيها الحبيب بعذر، فمكاتب دعوة الجاليات منتشرة في كل مكان، وفيها كتب نافعة لأغلب لغات أهل العالم، وهل يكلفك أيها الغيور على دينك الذهاب إليها؛ لتأخذ معك بعض الكتب أو الأشرطة التي تناسب لغة البلد التي ستسافر إليها؛ لتكون بذلك داعية خير ورسول سلام وحامل دعوة، وما يدريك! فلعلّ الله تعالى أن يهدي على يديك أحداً في سفرتك هذه إلى الإسلام، فهو والله خير لك من الدنيا وما فيها، وغير خافٍ عليك أن كل عمل صالح يعمله ذلك الذي اهتدى على يديك، فسيكون في ميزان حسناتك.
أخي، رعاك الله:
تمتّع بما أحل الله لك، من وسائل تكييف وراحة وسفر؛ ولكن إياك أن تكون ممن يهرب من حر الدنيا، ويقع فيها بسبب التعرض للحر الأكبر في نار جهنم؛ أعاذنا الله وإياك والمسلمين منها، وتذكر -حفظك الله- أنك بخير عظيم مادمت تحمل همّ الدعوة إلى دينك؛ ولو بإهداء كتيّب أو إيصال شريط، ولا تكن ذلك الهندوسيّ القابع في زوايا بعض المزارع، أو تلك الراهبة التي تعيش في غابات أفريقيا، لا يكون هؤلاء خيراً منّا في الدعوة، مع أنهم يدعون إلى أديانهم الباطلة، ونحن ندعو وبكلفة قليلة إلى خير الأديان وخاتمتها وأكملها.
أسأل الله تعالى أن يحفظك وأن يبارك فيك أينما كنت، وأن يعيذنا وإياك من أسباب غضبه، وأليم عقابه، وأن يجعلنا جميعاً من الدعاة إلى سبيله على بصيرة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
Source link