الأدب الرفيع والخُلُق الحسن والتعامل الراقي هي اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة بين جميع الناس، يفهَمُها كلُّ أحد، ويقدرها كل شخص، وينجذِبُ إليها كل كريم…
اتقوا الله عباد الله، فالوقتُ يمرُّ مرَّ السحاب، والعُمُر محسوب، والعَمَل مسجلٌ مكتوب، علاج الذنوب أن نستغفر ونتوب، والعاقبةُ للتقوى {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]، ويقول الحَقُّ جلَّ وعلا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
معاشر المؤمنين الكرام، الأدب الرفيع والخُلُق الحسن والتعامل الراقي هي اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة بين جميع الناس، يفهَمُها كلُّ أحد، ويقدرها كل شخص، وينجذِبُ إليها كل كريم، ألا وإنَّ من علامات الإيمان ومن دلائل السعادةِ والتوفيق: أن يُرزَقَ العبدُ ذوقًا راقِيًا، وأدبًا عاليًا، وخُلُقًا مُهذَّبًا، يحترِمُ مشاعر الناس، ويقدرُ الآخرين من الأقرَبين والأبعَدين، وهذا الأمر على يسره وسهولته وعظم أجره ومنزلته، وجميل أثره وعاقبته، إلا أنَّ القليل من الناس مَنْ يفعله، والأقل مَنْ يجاهد نفسه ليتحلَّى به {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، كيف يا عباد الله والدين كُلُّه هو الخُلُق، وفي الحديث الصحيح: ” «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم أخلاقًا».
بل لقد تضافرت نصوص الوَحْيَيْن على ذلك، فحثَّت وحضَّت ورغَّبت في التحلِّي بمحاسن الأخلاق، وحذَّرت ونفَّرت، ورهَّبت من مساوئ الأخلاق؛ بل لقد حصر الرسول صلى الله عليه وسلم مُهِمَّتَه العظيمة في تحسين الأخلاق، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّم صالحَ الأخلاقِ»، وحين أثنى الله على رسوله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، أكَّدها بخمس مؤكِّدات: الواو وإنَّ واللام والكاف والتعظيم، ولما سُئِلَتْ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: كان خُلُقُهُ القرآن، ولمَّا أنزل الله جلَّ وعلا على رسوله قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، سأل صلى الله عليه وسلم جبريلَ عن معناها قال: لا أدري حتى أسأل، ثم قال: إن الله يأمرك أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وتُعطي مَنْ حَرَمَكَ، وتعفو عمَّن ظَلَمَكَ، ولقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ البِرَّ هو حُسْن الخُلُق، وقال صلى الله عليه وسلم: ” «ما مِن شَيءٍ أثقلُ في ميزانِ المؤمِنِ يومَ القيامةِ من حُسْنِ الخُلُقِ، وإنَّ اللهَ يُبْغِضُ الفاحِشَ البَذيءَ» “، والحديث صحَّحَهُ الألباني.
وفي الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: ” «إنَّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ قائمِ الليلِ، وصائمِ النهارِ» “، وقال صلى الله عليه وسلم: ” «أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنَّةِ لمن ترك المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتٍ في وسطِ الجنةِ لمن ترك الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّةِ لمَنْ حَسُنَ خُلُقُه» “، والحديث حسَّنه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبِرُكم بأحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ»؟ قالها ثلاثَ مرَّاتٍ، قُلْنا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: «أحسَنُكم أخلاقًا»، وفي رواية صحيحة: «ألا أخبرُكم بخيارِكُم»؟، قالوا: بلَى يا رسولَ اللهِ، قال: «أطوَلُكم أعمارًا، وأحسَنُكُم أخلاقًا».
والحديث عن الأخلاق لا يكتمل إلَّا بالحديث عن صاحب الخُلُق العظيم، وأكملُ الناسِ خُلُقًا، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه أحسنَ الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، وكان عليه الصلاة والسلام: دائم البشر، سهل الطبع، ليِّن الجانب، كثير التبسُّم، وكان صلى الله عليه وسلم هيِّنًا ليِّنًا متواضِعًا يخصف نَعْلَه، ويرقع ثوبه، ويجلسُ على الأرضِ، ويجالس المساكين، ويأكل مع الفقراء، ويمشي مع الأرملة واليتيم، ويجيبُ دعوةَ الخادمِ، وينامُ على الحصيرِ حتى يُؤثِّر في جَنْبِه، وكان من دعائه: «اللهُمَّ أحيني مسكينًا، وأمِتْني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين»، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلِي»، هذا هو الرسول القائد، الآمر الناهي، الذي عُرج به إلى السماء، وتنزَّلَ عليه الوحي، ومع كل هذه الألقاب والمناصبِ والمسؤوليات والوظائف، يأتي إليه أعرابيٌّ فيجذبه جذبةً شديدةً، وكان صلى الله عليه وسلم عليه لباسٌ متين، حتى أثَّرت الجذبة في صفحة عاتق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقول الأعرابي بكل غلظةٍ وجفاءٍ: يا محمد، مُرْ لي مِنْ مالِ اللهِ الذي عندك، فيلتفت إليه ويضحك، ثم يأمر له بعطاء”، والحديث في البخاري.
هذه واللهِ هي العظمةُ البشرية في أسمى معانيها، هذه مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فتعلَّمُوا يا طُلَّاب الجنة، ثُمَّ تأمَّل سيرته صلى الله عليه وسلم حين دخلَ مكةَ فاتحًا مُنتصرًا عزيزًا مؤيدًا على أولئك الذين طردوه وآذوه وحاصروه، حتى أكل مع أصحابه ورق الشجر، فما رحموه، ووضعوا سلا الجزور فوق ظهره وهو ساجد لله، فلما دخلَ مكة دخلها وهو مُطأطئٌ رأسَهُ مُتذلِّلًا لله، مُتواضعًا لعباد الله، قائلًا لأولئك: «ما تظنُّون أنِّي فاعِلٌ بكم»؟، قالوا: أخٌ كريم وابْنُ أخٍ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».. مرةً أخرى إنها مدرسةُ محمد بن عبدالله- بأبي هو وأُمِّي صلى الله عليه وسلم- ومع كل ما كان يحمله على كاهله صلى الله عليه وسلم من هموم ومسؤوليات الأُمَّة، وتبليغِ الرسالة، وأعباءِ القيادة، وهمومِ الفقراء وتربُّصِ الأعداء، ومع كونه أبًا وزوجًا لعدة نساء، وإمامًا وقاضيًا ومُفْتِيًا ومُعَلِّمًا وقائدًا وحاكِمًا عامًّا، ومع ذلك كله يقول عبدالله بن الحارث رضي الله عنه: ما رأيت أحدًا أكثرَ تبسُّمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يُمازِح أصحابه ويُخالِطُهم، ويُداعِب صبيانهم ويُلاعِبُهم، ويجيب دعوةَ الحُرِّ والعَبْدِ والأَمَةِ والمسكين، ويعودُ المرضى في أقصى المدينة، ويقبَلُ عذرَ المعتذر، ولَكَمْ كان في قلبه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة! ولَكَم كان في خُلُقهِ من الإيناس والبر والملاطفة! ولَكَم كان في طبعه من السهولة والرفق واللين، وفي يده من السخاوة والكرم والندى! يقول أنس رضي الله عنه: إن كانت الأَمَة من إماء أهل المدينةِ لتأخذُ بيد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت؛ رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم يبدأُ مَنْ لَقِيَهُ بالسلام، ويبدأ أصحابَهُ بالمُصافحَة، ولا ينزِعُ يدَهُ حتى يكون الرجلُ هو الذي ينزِعُ، ولا يصرِفُ وجهَهُ حتى يكون الرجلُ هو الذي يصرِفُ وجهَه، “ولم يُرَ مُقدِّمًا رُكبتَهُ بين يدَي جليسِه”، فما هو نصيبُنا أيُّها الكِرام من هذه الأخلاق الراقية؟! وما الذي تعلَّمْناهُ من هذه المدرسة المحمديَّة السامية؟! أين موقعنا من هذه الخِلال الحميدةِ والخِصالِ الفريدة؟! ووالله، إنه لا صلاح لحالنا وحال أُمَّتِنا، إلَّا أن نَنْهَلَ مِنْ مَعِين أخلاقِهِ الصافية، ونصعد إلى مستوياتها العالية، وصدق الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
معاشر المؤمنين الكِرام، الذَّوقُ الراقي والأدب الجميل، مسلكٌ لطيفٌ، وفِعْلٌ حميدٌ، يُجسِّدُ حُسْن التربية، وكمالَ الخُلُق، وروعة التصرُّف، والناسُ تُحِبُّ ليِّنَ الجانِب، مُنبسطَ الوجه، والقلوبُ بطبعها تميل لمن تواضَعَ لها، فالمقابلة بالوجه الجميل، والمُصافحةُ بالكفِّ النبيل، والتحدُّثُ باللسان الفضيل، يفتحُ القلوب ويُمهِّدُ السبيل، والأدبُ- زادكم الله من فضله- وسيلةٌ إلى كل فضيلةٍ، فما أجمل أن يسيرَ المرءُ بين الناس وعطرُ أخلاقهِ يفوحُ منه! فالمرء بفضيلته لا بفصيلته، وبكماله لا بجماله، وبآدابه لا بثيابه، ومن قعَدَ به أدَبُه لم يرفعه حسَبُه، وشرُّ الناسِ مَنْ تركَه الناسُ اتِّقاء فُحْشِه، وفي مُحْكَم التنزيل: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18، 19]، وحاول يا عبدَالله أن تُدْخِل السُّرور إلى قلب كُلِّ مَنْ تُقابِلُه، واعلم أنها مِنْ أحَبِّ الأعمال إلى الله، وأنَّ من تحبَّبَ إلى الناس أحَبُّوه، ومن أحسنَ مُعاملَتَهم أكرموه، واعلم أنَّ البشاشةَ مصيدةُ المودَّةِ، وأنَّ البِرَّ شيءٌ هيِّنٌ، وَجْهٌ طليقٌ، وكلامٌ ليِّن {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، والجزاءُ من جنس العمل، فمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا ستَرَه الله، ومن يسَّر على مُعْسِرٍ يسَّرَ الله عليه، ومَنْ تواضَعَ لله رفَعَه، ومَنْ تكبَّرَ وضَعَه، ومَنْ أحْسَنَ إلى عباد اللهِ أحسنَ اللهُ إليه، ومَنْ تَجاوزَ عن غيره تجاوزَ اللهُ عنه، والراحمون يرحمهم الرحمن.
ازْرَعْ جميلًا ولو في غيرِ مَوْضِعِهِ ** فلن يضيعَ جميلٌ أينما وُضِعا
إنَّ الجميلَ وإنْ طالَ الزمانُ بـــه ** فليسَ يحصدُهُ إلَّا الذي زرعـا
وفي محكم التنزيل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، والعقلاءُ يعلمونَ أنَ كسبَ القلوبِ مُقَدَّمٌ على كسب المواقف، وأنَّ الجوابَ الرقيق يُطفِئ الغضب، وأنَّ الصوتَ الهادئ أقوى من الصُّراخ، وأنَّ الذوقَ يهزمُ الوقاحةَ، ومَنْ أراد أن يكونَ ذا ذوقٍ مرتفع، فليتذوَّق كلامَهُ قبلَ أن يُخرجهُ من فَمِه، فإن وجدَ كلمةً مُرةً، فليستبدلها بأخرى حلوة، فإنما هي كلمةٌ مكان كلمة {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
وإذا أردتم ميزانَ عدلٍ لا يحيف، ومنهجَ إنصافٍ بلا تطفيف، فأحِبُّوا لغيركم ما تُحبُّون لأنفسكم، واكرهوا لهم ما تكرهون لأنفسكم، وأحسِنوا لغيركم كما تُحبُّون أن يُحسَنَ إليكم، ولا تقولوا لغيركم ما لا تُحبُّون أن يُقال لكم، وافعلوا الخيرَ مع أهلهِ ومع غير أهلهِ؛ فإن لم يكونوا من أهله، فكونوا أنتم من أهلِه، ففي الحديث: «لا يؤمن أحَدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه».
_______________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة
Source link