منذ حوالي ساعة
قد بذل أسلافنا الصالحون رضي الله عنهم أوقاتهم وأموالهم في طلب العلم ومدارسته، وكان كثير منهم يضن بليله أن ينامه كله، بل يؤثر السهر في طلب العلم على الراحة والنوم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن الهتدى بهداه، وبعد:
فإنه لا يخفى على أحدٍ فضلُ العلم والعلماء؛ فإنهم أهل الرفعة كما قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن يزيده علما فقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهَّل الله له به طريقا إلى الجنة» (رواه مسلم).
وقد بذل أسلافنا الصالحون رضي الله عنهم أوقاتهم وأموالهم في طلب العلم ومدارسته، وكان كثير منهم يضن بليله أن ينامه كله، بل يؤثر السهر في طلب العلم على الراحة والنوم.
وكانوا يرون ذلك من أفضل القربات، فقد روى الدارمي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تَدارُس العلم ساعةً من الليل خيرٌ من إحيائها).
وكان عطاء وطاووس ومجاهد يقولون: (لا بأس بالسمر في الفقه).
وقيل لبعض السلف: بم أدركت العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح.
وسئل عن ذلك آخر فقال: بالسفر، والسهر، والبكور في السحر.
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: أفضل المذاكرة مذاكرة الليل.
وقد بوَّب البخاري رحمه الله: باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء، وذكر حديث قُرَّة بن خالد قال: انتظرنا الحسَن، وراثَ (أي أبطأ وتأخر) علينا، حتى قَربنا من وقت قيامه فجاء، فقال: دعانا جيراننا هؤلاء.
ثم قال: قال أنس رضي الله عنه: نظَرنا النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة حتى كان شَطر الليل يبلغُه، فجاء فصلى لنا ثم خطبَنا، فقال: ألا إن الناس قد صلَّوا ثم رقدوا، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة.
قال الحسن: وإن القوم لا يزالون بخير ما انتظروا الخير.
السهر في طلب العلم طاعة وقربة:
أخرج ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن أبي موسى، أن أبا موسى رضي الله عنه أتى عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه بعد العشاء، قال: فقال له عمر: ما جاء بك؟ قال: جئتُ أتحدث إليك، قال: هذه الساعةَ؟ قال: إنه فِقه، فجلَس عمر، فتحدَّثا ليلاً طويلا، حسبتُه قال: ثم إن أبا موسى، قال: الصلاة يا أمير المؤمنين! قال: إنَّا في صلاة. فجعل رضي الله عنه طلب العلم مثل الصلاة.
قال الإمام النووي رحمه الله: (قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك كمُدارَسة العلم، وحكايات الصالحين، ومحادثة الضيف… ونحوِ ذلك، فكل هذا لا كراهةَ فيه).
وكان العلماء وطلبة العلم يقضون كثيرا من الليل في طلب العلم ومذاكرته، ويتلذذون بذلك:
يهوى الدياجي إذا المغرورأغفلها ** كأن شهب الدياجي أعين نجل
والأعين النجل: الواسعة.
المذاكرة حتى الصباح:
ذكر محمد بن فضيل عن أبيه قال: كان الحارث بن يزيد العُكْلي، وابن شُبرُمة، والقَعقاع بن يزيد، ومغيرة إذا صلوا العشاء الآخرة جلسوا في الفقه، فلم يفرق بينهم إلا أذان الصبح.
وقال علي بن الحسن بن شقيق: قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد، فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح.
وكان محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى لا ينام الليل، كان عنده الماء يزيل نومه به، وكان يقول: إن النوم من الحرارة، فلابد من دفعه بالماء البارد.
وذكر ابن اللباد أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة (أي: العشاء) ثلاثين سنة، خمس عشرة سنة من دراسة، وخمس عشرة سنة من عبادة.
وكان البخاري رحمه الله يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج فيكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى، حتى كان يتعدد منه ذلك قريباً من عشرين مرة.
قل لمن نام وهو يطلب مجدا فاتك المجد يا حليف الوسائد
وقال آخر:
إذا شام الفتى برق المعالي فأهون فائت طيب رقاد
وقال عبد الرحمن بن قاسم العتقي المصري أحد أصحاب مالك والليث وغيرهما: كنت آتي مالكاً غلساً -يعني: في آخر الليل- فأسأله عن مسألتين أو ثلاث أو أربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتيه كل سحر، فتوسدت مرة عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد ولم أشعر به، فركضتني جارية سوداء له برجلها، وقالت لي: إن مولاك قد خرج، ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة.
أما أسد بن الفرات قاضي القيروان، وتلميذ الإمام مالك، ومدون مذهبه، وأحد القادة الفاتحين، فتح صقلية واستشهد بها سنة (213) من الهجرة، كان قد خرج من القيروان إلى الشرق سنة (172) من الهجرة، فسمع الموطأ على مالك بالمدينة، ثم رحل إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة وتفقه عليهم، وكان أكثر اختلافه إلى محمد بن الحسن الشيباني، ولما حضر عنده قال له: إني غريب قليل النفقة، فما حيلتي؟! فقال له محمد بن الحسن: اسمع من العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، تبيت عندي وأسمعك.
قال أسد: فكنت أبيت عنده وينزل إلي، ويجعل بين يديه قدحاً فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعست ملأ يده ونفح وجهي بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه ودأبي، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه.
قال أبو يعلى الموصلي:
اصبر على مضض الإدلاج بالسحر ** وبالرواح على الحاجات والبكــــر
لا تعجزن ولا يضجرك مطلبهـــــــا ** فالنجح يتلف بين العجز والضجر
أي أن النجاح يتبخر ويضيع بين العجز والضجر.
أما شيخ الإسلام الإمام المنذري الذي كان أحفظ أهل زمانه، فقد حكى شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى عن شيخه الإمام الجليل أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي يصف حال شيخه المنذري: (ولم أر ولم أسمع أحداً أكثر اجتهاداً منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار.
قال: وجاورته في المدرسة -يعني: في القاهرة- بيتي فوق بيته اثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته وهو مشتغل بالعلم).
قال الزمخشري واصفاً تلذذ العلماء بإيقاظ ليلهم من طول سهرهم:
سهري لتنقيح العلوم أَلَذُّ لــي ** من وصل غانية وطيب عنـاق
وتمايلي طرباً لحل عويصـــة ** أشهى وأحلى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقهـا ** أحلى من الدوكاء والعشـــــاق
وألذ من نقر الفتاة لدفهـــــــا ** نقري لألقي الرمل عن أوراقـي
أأبيت سهران الدجى وتبيتـه ** نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقــــي
والدوكاء: الحجر الذي يسحق به الطيب.
قال النووي رحمه الله تعالى وهو يحكي عن أوائل طلبه للعلم: وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض.
كان ينام وهو جالس، ثم لا يلبث أن يستيقظ للاستمرار في طلب العلم.
وحكى البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه فقال الإمام النووي: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه.
وهذا الإمام الشيخ حافظ الشام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله فقد كف بصره من كثرة المطالعة والكتابة وسهره في طلب العلم.
هكذا العلماء صار العلم لهم غذاء لأرواحهم فاستغنوا به عن كثير من زخرف الدنيا وزينتها وشهواتها.
قال أبوالخطَّاب الكلوذاني:
واعلم بأني قد نظمت مسائلا ** لم آل فيها النصح غير مقلـــد
وأجبت عن تسآل كل مهــذب ** ذي صولة يوم الجدال مسود
هجر الرقاد وبات ساهر ليلــه ** ذي همة لا يستلذ بمرقـــــــــد
قوم طعامهم دراســة علمهـم ** يتسابقون إلى العلا والســؤدد
وممن اشتهر بالسهر في طلب العلم الإمام الجليل تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى، وقد رحل إلى عدة بلدان، وأخذ العلم عن كبار أساتذة عصره، وتعمق في مذهبي مالك والشافعي، كما تعمق في علوم الحديث والتفسير وعلم الكلام والنحو والأدب، وأتقن وهو شاب المذهبين إتقاناً عظيماً، وبلغ إلى درجة الإفتاء بهما.
يقول الإسنوي: حقق المذهبين معاً، يعني مذهب مالك والشافعي، ولذلك مدحه الشيخ ركن الدين بن القوبع المالكي بقصيدة من جملتها:
صبا للعلم صباً في صبــاه ** فأعل بهمة الصب الصبـي
وأتقن والشـباب لـه لبـاس ** أدلـة مـالـك والـشـافـعـي
يعني: مال وأحب وعشق العلم في فترة الصبا.
كان رحمه الله تعالى منقطعاً للعلم والعبادة، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً، وكانت أوقاته معمورة بالدرس والمطالعة والتحصيل أو الإملاء والتأليف ورواية الحديث، وإذا أراح نفسه من بعض ذلك العناء فلا يُرى إلا قائماً يصلي في المحراب، أو جالساً يتلو كلام الله، أو ماشياً يتفكر في خلق الله متدبراً صنعه، مستدلاً بذلك على قدرة الله ووحدانيته، فهو منصرف بجسمه وفكره سواد ليله وبياض نهاره إلى البحث والتحقيق والاستنباط والتدقيق، أو الصلاة والقيام وتقديس الله الملك العلام.
وأصدق مرآة لحياته قوله:
الجسم يذيبه حقوق الخدمـة ** والقلب عذابه علو الهمــــــــة
والعمر بذاك ينقضي في تعب ** والراحة ماتت فعليها الرحمة
يقول السبكي في حاله: أما دأبه في الليل علماً وعبادة فأمر عجاب، فربما استوعب الليل فطالع فيه المجلد أو المجلدين، وربما تلا آية واحدة فكررها إلى مطلع الفجر.
وقال الأدفوي: حكى لي الشيخ زين الدين عمر الدمشقي المعروف بـ ابن الكناني رحمه الله تعالى قال: دخلت عليه بكرة يوم فناولني مجلداً وقال: هذا طالعته في هذه الليلة التي مضت.
وكان الفيروز آبادي صاحب القاموس يقول عن نفسه: لا أنام حتى أحفظ مائتي سطر.
وقد قيل: من أراد اللحاق بالسادة فليترك الوسادة.
لقد يَحمَدُ القَومُ السُّرَى في صَباحِهِمُ ** زمانَ تَلاقٍ عندَه الشَّمْلُ يُجمَعُ
وهـــا أنا أَسرِي في ظلامِي وإنِّنــــي ** أَذُمُّ صَباحِي والخلائـقُ هُجَّـعُ
أقولُ لِصَبرِي: أنتَ ذُخرِي لَدَى النَّوَى ** وذُخرُ الفَتَى حقًّا شفيعٌ مُشفَّعُ
Source link