“ذلك الخيال الأسود والظن السيئ، لا يُبدِّد ظلامه إلا إحسان الظن بالله، وتفويض الأمر إليه”
يقضَمُ الهمُّ قلبَه، ويعدو على لذةِ حاضرِه فيفترسها، فترتحل عنه السعادة، يتخيل أن القادم من الأيام بئيس، وأن المستقبل مظلم، حتى صيَّر قلبه ميناءً لاستيراد الأحزان.
لا يقف عند فعل الأسباب، بل يكلِّف نفسه ما يعجز عنه تدبيره، ويظن أن مستقبل من يرعاهم دونه في ضياع، وكأن همَّه مغنٍ من فقر، وشافٍ من مرض، ومداوٍ من عقم. ومنقذٌ من عنوسة؛ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
نسِيَ أن الأقدار مقدورة، والأرزاق مقسومة، دينية كانت أو دنيوية، وأن الله تكفَّل برزق جميع خلقه، فما كثرة الخلق وأرزاقهم إلا دلالة على عِظَمِ الرزاق وعظيم قدرته وكرمه؛ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، تكفَّل بالرزق مَن إذا وَعَدَ لم يُخلِف، وإذا أراد لم يعجز، قدرته عظيمة لا ينتابها نسيان، وقوته متينة لا يعتريها ضعف، ومشيئته نافذة لا يحول دونها شيء.
ذلك الخيال الأسود والظن السيئ، لا يُبدِّد ظلامه إلا إحسان الظن بالله، وتفويض الأمر إليه؛ روى أهل السير أن أبا جعفر المنصور قال لأحد العلماء: عِظْني، فقال: أعِظُك بما رأيت أم بما سمعت؟
قال: بل بما رأيت، قال يا أمير المؤمنين: إن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز أنجب أحد عشر ولدًا، وترك ثمانية عشر دينارًا، كُفِّن بخمسة دنانير، واشْتُرِيَ له قبر بأربعة دنانير، ووُزِّع الباقي على أبنائه، والخليفة الأموي هشام بن عبدالملك أنجب أحد عشر ولدًا، وكان نصيب كل ولد من التركة ألف ألف دينار، والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت في يوم واحد أحدَ أبناء عمر بن عبدالعزيز يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أبناء هشام يتسوَّل في الأسواق.
تفويض الأمر لله هو تسليم الأمر إليه، والتوكل عليه، وهذا محض العبودية، وخالص التوحيد.
تفويض الأمر لله مهما ادلهمَّتْ خطوب، وعظُمت كُرُوب؛ {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44]، التفويض هو البراءة من حَولِك وقوتك إلى حول الله وقوته، التفويض هو التقلب في أقدار الله بين صبر وشكر؛ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، إذا كان الله حسبَك وكافيَك، فأي حمل يستطيع إركاعك؟ وأي همٍّ سيضيق به صدرك، وينوء به ظهرك؟
رحماته تتنزل على قلبك تُطَمْئِنه، وكلما أوشكت على السقوط، تداركتك ألطافه، تهدئ روعك، وتُذهِب ضعفك، وتُربِّت على كتفيك.
فقط أحسِنِ القدوم يُجْزِلْ لك الوفادة!
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3].
________________________________________________
الكاتب: إبراهيم بن سعد العامر
Source link