ما من إنسان الا وهو يسعى ويتحرك بغية البحث عن السعادة وتحقيقها في حياته، حتى تنوّعت وسائل الناس في تحقيق هذه الأمنية العظيمة.
السعادة كلمة خفيفة على اللسان، حبيبة الى قلب كل إنسان، وهي مطلب جميعِ الناس، المؤمنِ والكافر، الصالحِ والفاجر، الغني والفقير، القوي والضعيف..كلهم يريدون السعادة، فما من إنسان الا وهو يسعى ويتحرك بغية البحث عن السعادة وتحقيقها في حياته، حتى تنوّعت وسائل الناس في تحقيق هذه الأمنية العظيمة.
فأكثر الناس يظنون، بل يعتقدون أن السعادة في المال وجمعه وتكديسه. والضعيف يرى سعادته في صحة بدنه وقوة جسمه وسلامة أعضاءه.
والذي لم يرزق الأولاد، يرى سعادته في كثرة الأولاد واتساع العشيرة والذرية التي تَقر بها عينه وتخلفه من بعده.
والعاطل يراها في وظيفة وراتب يكفيه هم الحياة.
والذي لم يتزوج يرى السعادة في زوجة ذات نسب ومال وجمال.
والتي لم تتزوج تراها في زوج تسكن إليه ويسكن إليها.
والطالب يراها في تأمين مستقبله.
والبعض يعتقد أن السعادة في أن تكون له وجاهة في المجتمع. ومنطق البعض من الناس أن السعادة تكون في التحكم والسلطة.
وأبشع من هؤلاء جميعا وأشنع وأحط درجة من ظن أن السعادة في المخدرات والمسكرات والفواحش والمنكرات، من ظن أن السعادة في السياحة والملاهي والكسل والتراخي، من ظن أن السعادة في البعد عن التكاليف والهروب من مشاكل الحياة ومسؤولياتها، من ظن أنه لن يكون سعيدا إلا إذا تمكن من تحقيق رغباته وشهواته ولو سعى لها بكل طريقة ووسيلة حتى وإن كانت تغضب رب الأرض والسماوات.
هؤلاء في الحقيقة مغبونون واهمون، حياتهم حياة الشهوات حياة الغفلة والملذات، بل حياتهم حياة الجحيم والتعاسة والشقاء، لأنهم جعلوا ثقتهم فيمن لا أمان فيه، وتعلقوا بمن يخونهم ويتخلى عنهم في أحلك الظروف وأشد الشدائد.
فالذين يظنون أن السعادة موجودةٌ في المال أو في الجاه أو الوظيفة أو الزوجة الحسناء أو الصحة أو القوة أو في متع الحياة الزائلة، ما علموا أن الدنيا بكل ما فيها وإن اتسعت لصاحبها أو ضحِكت في وجه ناظرها، فإنما هي ظل زائل، هي مُنغصات سُرعان ما تتكدر وتزول، كيف لا، وقد قال ربنا سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205، 207]، فهذه المتع التي فرحوا بها في الدنيا، وامتدت لهم سنين، ماتوا وتركوها لغيرهم، وما أغنتهم عما كان ينتظرهم في الآخرة.
فالمال يكرمك ما بذلته في الخير والنفع والصلاح، ويُهينك ما بخلت به وكدسته أو بذلته في الشر والفساد، المال إذا لم تستخدمه في طاعة الله يكون في الآخرة وبالا عليك، قال ربنا جل جلاله: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].
منصبك قد تزاح منه، بل المنصب لن يدفع عنك ضمّة القبر.
الأهلُ والأولاد هم أول من يهيل التراب على جسدك لما توضع في قبرك، الصحة القوة الفتوة أيها الشاب، الجمال أيتها الفتاة، إن لم تُذهبهم الأيام والزمان، ففي القبور ستفسدهم الديدان.
فأين تكمن السعادة وأين توجد؟
فكل الناس رجالا ونساء كبارا وصغارا، يبحثون عن السعادة، والكل يتمناها، ولكن الكثيرون يخطئون الطريق إليها.
فالسعادة معاشر المؤمنين والمؤمنات، ليست سلعة معروضةً فى الأسواق تُباع وتُشترى، ليست سلعة يشتريها الأغنياء، ويُحرم منها الفقراء، السعادة ليست في وفرة المال وتنوع الممتلكات،ولا سطوة الجاه،ولا في كثرة الولد، ولا في براعة الجمال، ولا في قوة البدن والعضلات، ولا بالتمكن من الشهوات، مع الغفلة عن حق رب الأرض والسماوات.. بل هي صفاء في النفس، وطمأنينةٌ في القلب، وانشراح في الصدر، وراحة في الضمير وهدوءٌ في البال.
السعادة لا تُرى بالعين، ولا تقاس بالكم أو بالعدد ولا تجمعها الخزائن، ولا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك أن ينتزعها ممن أوتيها. ولكنها سلعة ربانية، هبة منحة إلهية يهبها الله من شاء من عباده جزاءً من ربك عطاء حسابا.
السعادة الحقيقية تكمن في طاعة الله سبحانه وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، في الإيمان والعمل الصالح، ودليل ذلك قوله جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
السعادة، الحياة الطيبة الهنية في الاستحابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
السعادة في الدنيا وبعد الممات، إنما تكون في اتباع دين وشرع رب العالمين: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، سعادة القلوب وانشراحها في ذكر الله والإقبال عليه، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
هذا طريق السعادة، من سلكه شرح الله صدره، ويسر أمره، وأذهب همه، وكشف غمه وسدد قوله، وبارك له في عمره ووسع له في رزقه.
ولكن الكثيرين يخطئون هذا الطريق، ويَضِلون عن سواء السبيل، وذلك بسبب إعراضهم عن السبب الرئيسي للسعادة، بل بسبب إعراضهم عن السعادة نفسها، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس وأكل ما شاء وركب ما شاء وسكن حيث شاء، ( {ونحشره يوم القيامة أعمى} )، لماذا يُحشر يوم القيامة أعمى؟( {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} )، لأنه تعامى وأعرض عن ما فيه سعادته في الدنيا، فأعماه الله عن السعادة الحقيقية العظمى في الآخرة، ( {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} ).
هناك سعادة خاصة للمؤمن الصالح الذي أفنى حياته في طاعة رب العالمين، فهذا له موعد خاص مع السعادة عند مماته وبعده: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
تأملوا ما في هذه الآية، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت: 30] فهذه أول بشارة من بشائر السعادة الأخروية، أن الملائكة تتنزل عليهم عند موتهم وتطمئنهم، وتنهاهم، {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30] لا تخافوا فيما تستقبلونه، ولا تحزنوا على أي شيء سيفوتكم من هذه الحياة، لأنكم ستجدون عند الله أعظم وأحسن منه، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] إنّها البشارة العظمى، بشارة لك أيها المؤمن عند الممات، البشارة بالجنة، فتطير روحك شوقـا إلى ما عند الله، وفرحا بما أعده الله لك، إنها والله للسعادة الحق، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، السعادة الكبرى عندما تأخذ كتابك باليمين، وتصيح أمام العالمين، {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 19، 20]، السعادة عندما تُثْقل موازينك بالحسنات، وتمشي فوق الصراط إلى الجنة، وتنظر إلى قصورك فيها، وترى الأنهار تجري من تحتها، كما قال ربنا في الحديث القدسي:«أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر».
السعادة عندما ترى زوجاتك من الحور العين، فإذا بِك ترى ذلك الجمال الباهر، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58] أو {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49].
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 19 – 22].
وأعظم سعادة لأهل الجنة كما جاء في الحديثين الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، فيكشِفُ الحجاب، فما أُعطوا شيئا أحبَّ إليهِم من النظرِ إلى ربهم عز وجل، ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
_________________________________________________
الكاتب: الرهواني محمد
Source link